04:21 م
الجمعة 09 يونيو 2023
كـتب- علي شبل:
تحدّث إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي عن فضل التوكّل على الله واليقين برحمته ولطفه، وأن يعرف المرء ربّه في الرخاء والأمان لينال رحمته وغوثه، مذكّرًا بقصة خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- عند بناء بيت الله الحرام.
وذكر “الثبيتي”- في خطبة الجمعة اليوم نقلا عن وكالة الأنباء السعودية واس- أن في سيرة الأنبياء دروسًا وعبرًا، وسيرة خليل الله إبراهيم -عليه السلام- لها ارتباط وثيق في بعض صفحاتها بموسم حج بيت الله الحرام، عندما جاء إبراهيم عليه السلام بزوجته وابنه إسماعيل عليه السلام، ووضعهما في المكان الذي وضع فيه البيت من بعد، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد لا يكون فيه أي مظهر من مظاهر الحياة، لا بشر ولا ماء، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً من ماء، ثم رجع من حيث قدم، فتبعته أم إسماعيل فقالت: أين نذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، تردد ذلك مرارًا وهو لا يلتفت إليها، حتى قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فقالت: إذًا لا يضيعنا.
وبيّن أن في هذا الموقف المذهل، والحدث العجيب عظة وعبرة تدل على ثبات في ساعة ابتلاء لا يبلغه إلا العظماء بإيمانهم ويقينهم وتوكّلهم، إذ كانت كلمات قصيرة عميقة المدلول، آلله أمرك بهذا؟ إذًا لا يضيّعنا، تقول هذا في الوقت الذي توقن فيه أن زوجها سيذهب ويتركها في صحراء مقفرة، لا أنيس فيها ولا شيء، ومن قرأ القصة غير مؤمن، فإنه يراها ضربًا من الخيال، لا تستوعبها العقول، لكن القلوب المفعمة بالإيمان تستوعب أن من توكّل على الله حق التوكّل فإن الله يحفظه ويكفيه ويحميه ويرزقه.
وأوضح أن هذا الموقف مليء باليقين والدروس العملية، فالله جلا وعلا لم يكن ليضيع عباده وأوليائه، فعرفه وقت الشدّة، وقام في قلبه أن الصحراء ليست موحشة مع الأُنس بالله، وليست مقفرة بالتوكّل على من خلق الكون وبيده خزائن السماوات والأرض.
وتابع: لقد لقيت أم إسماعيل جزاء حسن ظنّها بربّها وبولدها، بل وللناس كلهم، فنبع ماء زمزم بين يديها، هذا الماء الذي صار طعام طعم، وشفاء سقم، خلّد الله ذكرها في العالمين، فكلما سعى الناس بين الصفا والمروة تعبدًا لله وتنسّكًا، تلوح لهم هذه القصة، تكريمًا لها ورفعةً لشأنها.
ودعا إمام المسجد النبوي إلى تأمل موقف أم إسماعيل وثقتها بربّها، حيث لم يتسلّل الخوف إلى قلبها رغم المكان الموحش الخالي من الطعام والشراب والبشر، موضحًا أن مقارنة ذلك بنا اليوم وحولنا كل شيء يجعل المرء يتعجّب حين يساورنا الحزن والقلق خوفًا على الرزق والأولاد والمستقبل، خوفًا من المرض، ومن الغد والمجهول، وأساس ذلك ضعف اليقين والتوكّل على الله.
وذكر أن الله تعالى أمر خليله إبراهيم -عليه السلام- ببناء البيت، فجعل ابنه إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، فكان بناء الكعبة مجرّد حجارة لا تضرّ ولا تنفع، وإنما استمدت شرعيتها من شرع الله وأمره بتعظيم البيت بالطواف حوله تأسيًا بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولولا أن الله شرع تقبيل الحجر الأسود كما علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعلناه؛ لأن الحجر لا يضر ولا ينفع ولا هو معبود، قال عمر رضي الله عنه: “إني أعلم أنك حجرٌ، لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك” رواه البخاري.
وبيّن الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي أن بناء بيت الله الحرام، عملٌ عظيمٌ، ومنصبٌ رفيعٌ، وشرفٌ لا يدانيه شرف ناله إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- وهما في أثناء ذلك وبعده يلهجان بالدعاء : “رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.
وأوضح أن في ذلك تضرّعًا وانكسارًا مع أداء أجلّ الأعمال الصالحة، وهذا حال أهل الإيمان والتقوى لا يدلون بأعمالهم على الله تبارك وتعالى، ولا يمنّون بطاعتهم وكأنهم يحسنون إلى ربّهم بحجّ أو عمرة أو صلاة أو صدقة، بل ينبغي على المؤمن أن يجعل كل عمل يبذله في سبيل مرضاة الله، فالأعمال الصالحة مدارها على القبول، وهذا مقصود العمل وغايته، ومن الغبن أن يعمل الإنسان أعمالًا صالحة فيسمح للرياء أن يتسلّل إليها ويقتلع ثوابها ويجعلها هباءً منثورًا.
وأضاف قائلًا: لقد نالت مكة وبيت الله الحرام نصيبًا وافرًا من دعوات خليل الله إبراهيم -عليه السلام- رفعت شأنها، وأعلت مقامها، وهيأتها لأمر عظيم {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ربنا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
وقال: وحتى يحقق هذا الجمع المبارك مقصده ويؤدي نسكه، دعا النبي الكريم إبراهيم الخليل ربّه “رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ” فاستجاب الله دعاءه فجعل مكة مكانًا يأتي إليه الناس ويأمنون من الخوف والآفات، فما وصل إليها جبّار إلا قصمه الله، نعم لأن الأمن عظيم، وإذا انتفى الأمن تعطّلت المصالح الدينية والدنيوية.
وذكر أن خليل الله إبراهيم -عليه السلام- صال وجال في أرض الله الواسعة يدعو إلى التوحيد، يرسّخ العقيدة، حاور عليه السلام، النمرود الذي ادّعى الألوهية، وحاور أباه المشرك، وتلطّف معه، وحاور قومه المشركين ونوّع معهم الخطاب، وتنزّل معهم في الجدال ليثبت فيهم وحدانية الله، ولقد فصّل القرآن الكريم تلك الحوارات آيات تتلى، وقصص تروى، ودروسًا تستقى.
وأضاف الشيخ عبدالباري الثبيتي أن العالم اليوم يئن من ويلات الحروب والنزاعات والصراعات والقتل والتدمير، وهو في أشدّ الحاجة إلى التعريف بالإسلام دين السلام والرحمة والمحبّة والألفة، الدين الذي يعطي الإنسان حقوق وكرامته، بل ويجعله محور هذا الكون، ويعزّز الأمن بشموله الذي يقود إلى البناء والتنمية والرخاء والسعادة والحياة الطيبة، ولا شك أن غياب لغة الحوار من أبرز أسباب صدود غير المسلمين عن الإسلام، فقد حاور إبراهيم -عليه السلام- زوجه وابنه إسماعيل ليؤكد لنا أن الحوار منهج حياة، وهو الغذاء المتجدّد الذي يقوّي الوثاق بين الزوج وزوجته، وقاعدة بناء علاقة الوالدين مع أبنائهما، وغياب الحوار الهادئ العلمي اللطيف أفرز مظاهر تمرّد الأولاد، وزيادة نسب الطلاق والخلع، ولعل هذا الواقع يستحثّ أهل الحلّ والعقد والفكر إلى تصدّر المشهد، وحمل زمام المبادرة لحماية المجتمع والوطن والأمة من آثار التفكّك الأسري.