علاقات و مجتمع
داخل منزلها بمنطقة «مدينتي» قضت السيدة دينا رضا، سنوات طويلة من عُمرها، وحيدة، لا جليس ولا ونيس سوى «كلبة» صغيرة، تستمع يوميًا لصوتها فيطمأن قلبها، فهناك روح تجاورها، حتى وإن كانت روح «حيوان أليف».
في أريكة صغيرة أمام نافذة منزلها، تجلس «دينا» لتتصفح الأخبار يوميًا، خاصة كل ما يتعلق بأمور الطب والتبرع بالأعضاء، وعقلها شاردًا بمن حولها من المرضى الذين تتعلق أرواحهم بنقل «عضو» من جسد مُتبرع لأجسادهم، ربما يعيد لهم الحياة مرة أخرى، لتراودها الفكرة بين الحين والآخر «هل يمكنني إنقاذ حياة إنسان عقب وفاتي؟».. سؤال ظل يطرق بابها منذ سنوات طويلة، فتملك منها وظلت تبحث عن إجابته وهي تطرق أبواب الطب والعلم والدين والقانون، قبل أن تحقق مرادها بالإمضاء على وثيقة تبرع بأعضائها عقب وفاتها داخل مصلحة الشهر العقاري، لتصف الأمر بـ«تحقيق الحلم»، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة بعد 5 سنوات من التوثيق، بعدما عُرفت بين الأوساط الإعلامية بكونها أول مصرية توثق تبرعها بأعضائها بعد الوفاة بالشهر العقاري.
«إقرار بعد وفاتي، وعدم استحالة عودتي للحياة، بالتبرع بأي عضو يمكن نقله من كبد- كلى- رئة- الأمعاء- البنكرياس أو نسيج يمكن نقله لجسم آخر، لأي مريض يمكن الاستفادة منه للحفاظ على حياته».. كلمات صادمة بمثابة موافقة رسمية وقانونية مضت عليها السيدة دينا رضا قبل 5 أعوام من اليوم، وهي تُقر برغبتها بالتبرع بأعضائها عقب وفاتها، ظلت تحتفظ بهذه الوثيقة وكأنها تحمل «أعضاءها على ورقة» مرهونة بوفاتها، قبل أن ترحل عن دنيانا، بعد رحلة طويلة قضتها بين المصالح الحكومية والمؤسسات الدينية، والمستشفيات، حتى فراش الموت في النهاية.
حديث أخير قبل الوفاة
سنوات من الشعور بالانتصار للإنسانية عاشتها السيدة دينا رضا، بحسب حديثها الأخير قبل وفاتها لـ«الوطن»، وذلك منذ الإقرار على الوثيقة، الذي جاء بعدما وافق البرلمان المصري في 2010 على قانون تنظيم التبرع بالأعضاء بعد ثبوت الوفاة ثبوتًا يقينيًا تستحيل بعده عودته إلى الحياة، بموجب قرار يصدر بإجماع الآراء من لجنة ثلاثية تنشأ بمقتضى القانون الجديد وتتبع وزير الصحة، وتتولى إدارة وتنظيم عمليات نقل الأعضاء، على أن تتولى الدولة تمويل عمليات نقل الأعضاء للمرضى الفقراء ذات الأولوية.
«طول عمري كنت بفكر في الموضوع، بقول لما نموت إيه اللي هيحصل للأعضاء؟ ويا ترى العضو ده ممكن ينقذ حياة شخص من الموت؟، طيب ما الأولى اتبرعله بيها بعد وفاتي وانقذه».. بهذه الكلمات سردت السيدة الراحلة في حوارها الأخير وهي على فراش المرض حكايتها التي بدأت منذ نضجها: «لما كنت بفترض الأسئلة دي في أي نقاش كنت كتير بلاقي هجوم، ويمكن تحريم، لكن متراجعتش لحظة حسيت إن الإنسان عشان يحس بإنسانيته لازم يفكر في غيره، ومفيش أهم من إنك تنقذ حياة إنسان غيرك كان ممكن يموت».
إعمال العقل كان هو المُسيطر على السيدة الخمسينية، التي ظلت تراودها هذه الأفكار حتى بعدما تخطت العقد الخامس من عمرها: «أنا كلام الناس موقفنيش، كنت بقول لنفسي أكيد مجتش الدنيا عشان أمشي كده، خاصة إني اتجوزت مرتين وربنا مرزقنيش بالأطفال، وبقيت لوحدي مش معايا حد وماليش حد قريب، لاقيت نفسي بدور تاني وببحث وروحت لشيوخ في الإفتاء والأزهر ومسبتش باب مخبطتش عليه لحد قانون تنظيم التبرع بالأعضاء بعد الوفاة ما اتقنن».
من المستشفيات للشهر العقاري.. رحلة عصيبة ومُرة
رحلة «دينا» على رجال الدين والعلم لم تكن أقل صعوبة من رحلتها بمصلحة الشهر العقاري، بحسب ما وصفته: «اليوم ده رغم إن خلاص القانون اتفعّل لكن لما روحت أمضي على الوثيقة كان فيه حالة من الاستنكار والانتقادات، قدمت صور بطاقة الرقم القومي ووقعت على إقرار بأن التبرع بالأعضاء كان دون منفعة أو مقابل مادي، ودفعت رسوم بسيطة، كنت أول سيدة تمضي على الوثيقة، لكن بعدي عرفت إن في 14 واحد كمان مضوا».
لم تر السيدة الراحلة فيمَا فعلته عملا بطوليا أو حتى شعورًا بالإيثار، فكان الأمر بالنسبة لها شعور بالمسؤولية ممزوج بإنسانية كبيرة: «أنا مليش حد وكبرت وعشت حياتي، لكن غيري لسة لم يعش حياته، لسه محتاج فرصة للحياة، ليه مكونش أنا الفرصة دي، وأنا متأكدة إن هيكون في مقابل وهو ثواب من عند ربنا عز وجل لما أقابله».
هالة كبيرة من الأضواء والإعلام سُلطت على السيدة تحديدًا منذ عامين، بعدما خرجت تتحدث وتشارك بل تدعو غيرها للتفكير على نهج تفكيرها، لتصبح ملامحها مألوفة للكثير، تحديدًا بعدما أصبحت في بعض الأوقات مرجِعا لمن قرروا السير على خطاها، بالتوازي مع إعلان الإدارة المركزية للعلاج الحر والتراخيص بوزارة الصحة في نوفمبر 2022، بإقبال بعض المواطنين للتوقيع على النموذج.
السرطان يقف حائلًا بينها وبين حلمها ويسرق وصيتها
أيام وشهور وسنوات عاشتها دينا رضا منذ الإقرار كانت من أسعد لحظاتها، قبل أن يهاجمها السرطان الخبيث في مارس 2023، لتنقلب حياتها رأسًا على عقب، بعدما هاجمها سرطان شرس في مرحلة متأخرة، منتشرًا في الرئتين، والعظام، والعمود الفقري، حتى الغدد الليمفاوية.
«السرطان وقف فرحتي بتحقيق حلمي بالتبرع، السرطان سرقني وأنا عايشة وهيسرقني وأنا ميتة لأني مش هقدر أتبرع»، كلمات حسرة ويأس سيطرت على السيدة قبل وفاتها خلال حديثها، لا مفر من قضاء الله وقدره: «أنا راضية بقدر ربنا لكن لحد ما أموت هفكر في الناس اللي كان نفسي أساعدها».
صدمة كبيرة عاشتها السيدة قبل أشهر من وفاتها، بعدما تأكدت من توقف حلمها التي طالما حلمت به، إذ أصبح من المستحيل التبرع بعضو من أعضائها، وفقًا لحديث الدكتور أحمد حسين، طبيب زراعة الأعضاء: «السرطان للأسف طالما اتمكن من الجسم صعب إنها تتبرع بعد وفاتها، لازم الأعضاء تكون سليمة والدم كمان، وقتها اللجنة المتخصصة تفحص وتقرر لكن في الحالة دي الأمر مستحيل».
دينا رحلت وتركت وثيقة الوصية عن أعضائها و«كلبتها»
رحلت دينا رضا في 28 ديسمبر 2023، بعد أشهر من معركة شرسة مع المرض الخبيث، لترحل وتترك وثيقتها التي ظلت تعتز بها وهي على علم إنه لا يمكن استخدامها مُطلقًا، وتترك «ونيستها الوحيدة» كلبتها التي أوصت شخص أمين على رعايتها بعد وفاتها بحسب آخر حديث لها.