محمد يونس القاضي
لا شك أنك قضيت مرحلة الطفولة تردد النشيد الوطني «بلادي بلادي» في طابور الصباح، وتسمعه يتردد على مسامعك في مباريات المنتخبات القومية والأحداث الرئاسية الهامة، منذ أن قرر الموسيقار محمد عبدالوهاب اعتماده نشيدًا وطنيًا عام 1978 وأعاد توزيعه الموسيقى، إلا أنّ مؤلفه عانى من نسيان الناس له وعاش في أواخر عمره على أطلال ماضيه، إنّه محمد يونس القاضي الذي قال في آخر تصريحات صحفية له: «أنا أعيش في ضياع.. أريد أن تمر أيامي بسرعة».
محمد يونس القاضي ولد في الأول من يوليو عام 1888 بقرية النخيلة التابعة لمركز أبو تيج، والده هو القاضي يونس أحمد الشهير باسم يونس القاضي، ارتبط «يونس» الابن ارتباطًا وطنيًا وروحيًا بالزعيم مصطفى كامل، كما ارتبط بعلاقات وطيدة مع أساطير الفن والطرب منهم سيد درويش وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وكوكب الشرق أم كلثوم.
قصة أغنية «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»
وبحسب كتاب «الحكواتي» للمؤلف محمد أمير، كان عام 1907 شاهدًا على حادثة دنشواي، خرج الزعيم مصطفى كامل وقتها في خطبة مؤثرة تهدد عرش التاج البريطاني في مصر، وتحوّلت هذه الخطبة بعد ذلك لأيقونة النضال المصري ضد المستعمر، إذ قال فيها: «لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا» ثم نهى الخطبة قائلًا: «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر».
سمع محمد يونس القاضي هذه الكلمات وقرر أن يكتبها ويستكملها كقصيدة، وبقت أغنية شعبية تتردد في مصر ضد المستعمر ورددها الشعب المصري في وجه الإنجليز، وكانت السبب في إشعال ثورة 1919، وفي عام 1978 بعد معاهدة كامب ديفيد، اختارها الموسيقار محمد عبدالوهاب لتكون النشيد الوطني المصري، وبذلك يكون محمد يونس القاضي هو مؤلف النشيد الوطني وسيد درويش الملحن.
وبحسب «الحكواتي»، حظر الإنجليز إبان الثورة استخدام اسم سعد زغلول ورصدوا عقوبة على التلفظ باسمه تتمثل في الجلد والإعدام، ما دفع محمد يونس القاضي أن يخرج بأغنية تقول كلماتها: «يا حليوة يا بلح، عليك يا وعدي يا زغلول يا بلح، في كل وادي زغلول يا بلح، عليك يا سكر زغلول يا بلح، وفيه مدبر زغلول يا بلح، ليه طال بعادك زغلول يا بلح، ربي نصرني زغلول يا بلح»، ليغنيها الفلاحون في موسم حصاد البلح، وتحايل على القانون، فراح يذكر كلمة «زغلول» في كل أغنية ومسرحية يكتبها.
قصة أغنية «أهو ده اللي صار»
ولعل البعض لا يعرف أنّ مؤلف أغنية النشيد الوطني، هو نفسه مؤلف الأغنية الشهيرة «أهو ده اللي صار»، ففي عام 1917، خرج الشيخ محمد يونس القاضي من السجن للمرة الـ19 في حياته، وحينها انتشرت أغانيه ومسرحياته مع سيد درويش كالنار في الهشيم، وكانت تردد كل جملة كأنها شعار تُكتب على الحوائط أو تتردد في المظاهرات أو تُكتب في منشورات.
وفور خروجه، تم استدعائه وقتها من قِبل وكيل وزير الداخلية «نجيب باشا» للتحقيق، وفي أثناء التحقيقات سأله «نجيب» قائلًا: «بتكتب أغاني تنادي بالحرية ليه؟» فرد قائلًا: «أنا مصري ودي بلدي ومش من حق المستعمر يعمل كده»، ما دفع نجيب باشا بإمساك «القاضي» من الجبّة والقفطان وصرخ في وجهه قائلًا: «بدل ما تقول الكلام الفارغ ده، دوّر إزاي تصنع جِبة في بلدك الأول».
ظلت كلمات نجيب باشا تدور في رأس نجيب باشا، فخرج بالقصيدة الخالدة ردًا على وكيل وزير الداخلية وقال: «أهو ده اللي صار وأدي اللي كان، ملكش حق تلوم عليا، تلوم عليا إزاي يا سيدنا؟ وخير بلادنا مهوش بإيدنا؟ (يقصد الإنجليز)، قولي عن أشياء تفيدنا وبعدها ابقى لوم عليا».
حفيدته تكتب: يونس القاضي عصر من التنوير
وبحسب كتاب «يونس القاضي: مؤلف النشيد الوطني وعصر من التنوير» الذي كتبته إيمان مهران حفيدة يونس القاضي، فقد كتب الشيخ «يونس» قرابة 20 مجلة وجريدة من الصحف السياسية والأدبية والفكاهية (اللواء) و(المؤيد) و(مصر الفتاة) و(النيل) و(الرشيد) و(السيف) و(العفاف) و(مصر) وغيرها،
وحسبما تداولت «مهران» في كتابها عن سيرة الشيخ، فقد كانت دار اللطائف تُصدر مجلات (اللطائف المصورة) و(العروسة) و(الأولاد) طوال 27 عامًا، وكانت اللطائف المصورة توزع في كل الأقطار العربية، وقد أحب الشيخ «يونس» العمل بها كاتبًا وزجالا، وكان ضمن فريق التحرير فيها وقد شغل منصب رئيس تحرير القسم الفني بها، وكانت أزجاله أسبوعية منذ عام 1915م وحتى عام 1942م وكان زجل الشيخ يونس السياسي ينشر تحت رسوم كاريكاتير «الأستاذ صاروخان».