جولة في مذكرات السندريلا: قدمت للإذاعة أغنية «حالو يا حالو» و«فوازير الكاركاتير» عام 1975في بحر من الصخب والضجيج، يسطع كتاب «سعاد بخط يدها» للكاتبة ولاء جمال كعمل أدبي نقي، بعيد عن الابتذال، ومشبع بروح الحنين والسرد العميق. يقدم الكتاب صورة حية للسندريلا، ليست فقط كما عرفها جمهورها على الشاشة، بل كما كانت خلف الكواليس؛ في لحظاتها الحميمة، وفي علاقتها مع الأشياء، ومع ذاتها، ومع الحياة التي منحتها المجد وسلبتها الراحة.
هنا، لا يقتصر السرد على الكلمات وحدها، بل تتحدث الصور، والأوراق، وخط يد سعاد حسني نفسها، وكأنها تفتح نافذة إلى روحها.تتناثر تفاصيل لم تُرَ على الشاشة، لكنها تُشعر، تُلامس، وتُحفر في الذاكرة. علبة السجائر والولاعة، كرسيها الذي بات فارغًا وكأنه انتظار أبدي، حذاؤها الذي ضاق وأصبح من الماضي.. كلها شواهد على عمرٍ عابرٍ وزمنٍ لم يمهلها طويلاً.لا تكتفي الكاتبة برصد ماضي سعاد، بل تعيد الحياة إلى لحظاتها العابرة، إلى صورها مع كمال الطويل وصلاح جاهين، حيث الموسيقى والكلمة التي صنعت لها مجدًا خالدًا.
في شقتها بحي الزمالك، العقار رقم 17 بشارع يحيى باشا إبراهيم، تتنقل بنا الكاميرا عبر فساتينها، جوائزها، والبيانو الذي اشترته بشغف، لتتعلم العزف عليه تحت إشراف كمال الطويل. هناك، إسطوانات أغانيها، كتب أهداها إليها كبار الأدباء، وصفحات تحمل كلمات من أحبّوها، مثل مفيد فوزي، الذي وصفها بأنها: «الفنانة القذيفة التي يصدقها 50 مليون مصري و50 مليون عربي».
يضيء الكتاب بإهداءات كبار الأدباء في دفاتر ذكرياتها، مثل سمير عبد الباقي، وعبد العاطي حامد، وخولة عبد الهادي، وخيري شلبي.
لكن الأعمق هو مناجاة سعاد لربها، حيث تكشف صفحاتها المكتوبة بخط يدها عن خوفها، رجاءها، وثقتها المطلقة في رحمة الله. في إحدى رسائلها، تقول: «يا رب، يا رب، ارضَ عني.. يا رب اعفُ عني.. يا رب بارك لي في خطواتي.. يا رب شاركني أفكاري.. يا رب حقق أمنيتي.. يا رب سامحني».اعتمدت ولاء جمال في كتابها على الوثائق الشخصية والملامح الإنسانية التي صاغت شخصية السندريلا، مقدمة صورة مغايرة تماما لما أشيع عنها، خاصة فرضية انتحارها، تكشف نصوصها المكتوبة عن امرأة عاشقة للحياة، متمسكة بالأمل، تخطط للمستقبل، وتواجه الصعاب بإرادة صلبة.مجانين سعاد.. العشق الذي لا ينطفئ في لمسة إنسانية، خصصت الكاتبة فصلا لـ«مجانين سعاد»، عشاقها الذين تحولوا إلى دراويش في محراب حبها، أبرزهم عم فتحي المجنون، الذي ترك عمله ليعمل كومبارس في السينما، فقط ليكون قريبا منها، كان يجمع صورها النادرة، ويطوف وسط البلد حاملا عشقا لا يخفت، مترددا على منزلها طلبا للطعام أو المال، فتستقبله بحنو بالغ، مدركة أن بعض القلوب لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى لمسة أمان.
حين يحل شهر رمضان المبارك، تتجدد في الأذهان أصوات وألحان صنعت للذاكرة المصرية والعربية طابعها الخاص في هذا الشهر الكريم، وفي مقدمتها يلمع اسم سعاد حسني، السندريلا التي لم تكتفِ بكونها نجمة السينما والاستعراض، بل تركت بصمة فنية ساحرة امتدت إلى الغناء، فأضفت على رمضان طابعا من البهجة والدفء، وكأنها كانت جزءا من طقوس الشهر الفضيل.لم يكن حضورها مقتصرا على الشاشة الفضية، بل امتد ليشمل الإذاعة المصرية، حيث قدمت واحدة من أشهر أغاني رمضان «حالو يا حالو» عام 1975، ضمن برنامج «فوازير الكاركاتير».
هذه الأغنية، التي كتبها الشاعر الكبير صلاح جاهين ولحنها المبدع كمال الطويل بتوزيع جمال سلامة، أصبحت نشيدا رمضانيا تتناقله الأجيال، ويتردد صداه في الشوارع والأسواق مع كل عام جديد.كما أهدت الإذاعة المصرية بصوتها العذب تتر برنامج «غنوة وحدوتة»، الذي كانت تقدمه الإذاعية القديرة فضيلة توفيق، المعروفة بـ«أبلة فضيلة»، بأسلوب قريب من أغنيتها الشهيرة «الدنيا ربيع»، حيث حملت كلماته نكهة رمضان المميزة، قائلة: «رمضان كريم يا حالو.. كله يثبت محله ويحضر الحاجات».
مسيرة سعاد حسني ليست مجرد رحلة فنية، بل تجربة متفردة حملت روح الإبداع المتجدد، إذ وُلدت في 26 يناير 1943 بحي بولاق في القاهرة، وسط أسرة شامية الأصل، فوالدها محمد كمال حسني البابا كان من رواد فن الخط العربي، وجدها حسني البابا مغنيا شهيرا في دمشق.وسط 16 شقيقًا وشقيقة، نشأت في بيت يُقدّر الفن، ما مهد لها طريق النجومية، اكتشفها عبد الرحمن الخميسي ودفع بها إلى المسرح في «هاملت»، قبل أن يرشحها هنري بركات لبطولة «حسن ونعيمة» (1959)، حيث قدمت أداء ساحرا فتح لها أبواب السينما. خلال مسيرتها، قدّمت 80 فيلما، لم تكن مجرد أعمال، بل علامات فارقة في وجدان المشاهد العربي.
تبقى سعاد حسني رمزا للجمال والموهبة، تعيش أعمالها في ذاكرة الفن العربي، وتُستعاد كل رمضان مع أغانيها الخالدة، ومع ترديد «حالو يا حالو»، يظل صوت السندريلا حاضرا، يذكّر بزمن كان فيه الفن جزءا من فرحة رمضان، حيث الألحان الخالدة والذكريات التي لا تزال نابضة بالحياة.