زينب تحمل ولدها عبد المنعم داخل الجامعة
صورة تملؤها كل مشاعر الحنان والأمومة، تظهر فيها تلك السيدة المسنة التي تحمل ابنها بين ذراعيها داخل أسوار الجامعة، قاطعة مسافات طويلة، لتوصله إلى حيث مبتغاه وحلمه الذي يتمناه، فلم تكتفِ زينب الشربيني بتدليل «عبدالمنعم» ورعايته في طفولته فقط مثل باقي الأمهات، بل أكملت حنانها وأمومتها حتى بلغ الـ26 عامًا، لتحمله في هذا السن من البيت إلى الجامعة، نظرًا لأنه وُلد بمرض نادر أقعده عن الحركة تمامًا.
في أسرة متوسطة الحال، حيث يعمل الأب بالزراعة، والأم تعمل في خدمة البيت، وُلد عبد المنعم المهدي، ومنذ اليوم الأول الذي جاء فيه إلى الحياة، لاحظت تلك الأم الحانية أن ابنها معاق إعاقة كبيرة، فرأسه منحنٍ جانبا، وقدماه كانتا ملتصقتين إلى الخلف، لتهرع به إلى المستشفيات طالبة أسباب الشفاء التي أودعها الله في العلاج.
رحلة «عبدالمنعم» مع المرض
«كل يومين تلاتة كانوا يعملوا له عملية، واستمر الوضع حوالي 5 سنين» وفقًا لرواية «زينب» لـ«الوطن»، ثم تتابع أنه بعد عدد لا حصر له من العمليات الجراحية بدأت رقبته في الاعتدال وذلك عند سن السابعة بالتحديد: «في الفترة دي بدأت أتابع حالته مع دكتور خصوصي، ولكن بدأ يظهر عليه مرض جديد».
لم تتمكن زينب الشربيني من التقاط أنفاسها بعد تلك السنوات السبع الشداد، فقد لاحظت أن عظام طفلها تتكسر لأدنى الأسباب: «كنت بلاحظ أثناء ما يكون نايم إن عظامه بتتكسر بمجرد ما يحرك رجله أو ذراعه، فكان بيتجبس باستمرار»، بقيت هذه الحال عدة سنوات حتى نصحهم أحد الأطباء المتخصصين في العظام بأن يُجروا له عملية جراحية في عظامه، لكنها لم تنجح بسبب هشاشتها: «الدكتور ركب له مسمار نخاع.. لكن العضم ملتأمش عليه، وعشان كده اضطروا يعملوا له عملية تانية شالوا المسمار من خلالها».
رحلة التعليم
بدأ عبد المنعم المهدي ابن قرية «الستاموني» بمحافظة الدقهلية، رحلته التعليمية في خضم تلك الظروف المرضية التي يعيشها، والعبء كله تتحمله والدته التي ليس لديها إلا هو وأخوه الأكبر، فخلال مراحله الدراسية الأولى كانت تتولى الذهاب به إلى المدرسة على كرسي متحرك تدفعه أمامها بصعوبة؛ بسبب الرمال التي تتكون منها شوارع قريتهم، ثم ترجع لتقضي احتياجات البيت ثم تعود إلى المدرسة لتعيده لداره: «كنت بوديه المعهد الابتدائي الأزهري الصبح، وأخلص شغلي وعلى الضهر بروح أجيبه، وبالليل أوديه الدروس».
كان حلم الوالدة، وعلامات النبوغ التي ظهرت في الطفل منذ سنواته الأولى، هما العاملان اللذان جعلاها تصبر على مشاق تعليم ابنها: «ظهرت عليه علامات النبوغ من صغره، لكن الفترات اللي كان بيعمل فيها عمليات جراحية كان بيحس باليأس لكن أنا مكنتش بيأس وبشجعه على إكمال طريقه».
انتهت فترة الدراسة الابتدائية ومن بعدها الثانوية والإعدادية على ذلك الكرسي المتحرك الذي يتنقل به «عبد المنعم» بمساعدة والدته، ثم جاءت مرحلة الجامعة ليلتحق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدمياط جامعة الأزهر، والتي لم يُجدِ معها هذا الكرسي؛ نظرًا لبعد الكلية عن إقامتهم: «اتوليت مهمة إني أوديه الجامعة، ومكنش بينفع ناخد الكرسي المتحرك لأني بركب 4 مواصلات لغاية ما نوصل الكلية، وبعد كده أشيله على كتفي وأطلع بيه الدور التاني أو التالت»، في تلك المرحلة بلغت السيدة من الكبر عتيًا، وأجرت هي الأخرى بعض العمليات الجراحية الكبيرة، ولكنها أصرت على إكمال مسيرة تعليم نجلها المتفوق.
يلتقط عبد المنعم المهدي، المصاب بمرض العظم الزجاجي، أو هشاشة العظام من الدرجة الأولى، الحديث من والدته راويًا لـ«الوطن» بأنه ما زال يدرس في السنة الرابعة بالكلية، على الرغم أنه من المفترض أن يكون قد تخرج منذ سنوات، لكن جراحاته المتعددة ضيعت عليه فرصة التخرج إلى الآن، وفي ذلك يقول: «المفروض كنت أتخرج في 2018، ولكن بسبب غياباتي المتكررة الكلية فصلتني؛ لكن أمي صممت وراحت وعملتلي التماس من مشيخة الأزهر ورجعتني الكلية تاني».
كما أنه يركب عددا كبيرا من المواصلات، «بنركب أكتر من أربع مواصلات وبين كل مواصلة والتانية والدتي بتشيلني، وبعد كده في الكلية بتطلعني المدرج بتاعي»، ويواصل حديثه موضحا دور والدته: «ما كانتش بتخليني عايز حاجة، ولما تبقى نفسيتي تعبانة تقعد تهزر معايا، وتكلم صحابي ييجوا يقعدوا معايا».
وعن تفوقه الدراسي يقول عبدالمنعم: «في 3 إعدادي كنت طالع الأول على المعهد، وفي ثانوين كنت جايب 75%»، متحديا معاناته مع المرض «لما كانت رجليا بتتكسر كنت بفضل بالتلات شهور على السرير».
حلم «عبد المنعم» ووالدته
يتفق الشاب ووالدته على ضرورة حصوله على وظيفة؛ حتى تكون له كفافًا عن سؤال الناس، وكان قد حاول العمل بالتدريس من قبل لكنه لم ينجح في ذلك بسبب مرضه: «حاولت في موضوع التدريس لكنه كان بيحتاج مجهود، ومعظم الناس كانوا عايزيني أروح لولادهم بيتهم، ولما جيت أجرب لقيتني بفضل اليوم كاملا بره، فمستحملتش الوضع، بجانب إن الأطفال محتاجه مجهود، وأنا بسبب البنج خلقي ضيق».
ويختتم الشاب المجاهد بمرضه، حديثَه برسالة وجهها إلى والدته التي طالما تحملت الصعاب في سبيل إسعاده وحتى الآن: «مفيش كلام يكفي اللي عملته معايا، لو بوست إيديها ليل ونهار ميكفيش فضلها عليا، فربنا يطول في عمرها، وأنا أمنية حياتي، إن يكون ليا دخل وأقدر أوديها الحج والعمرة».