وجه أبو عبيدة قائد جيوش المسلمين رسالة إلى أهل القدس خيرهم فيها بين الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، لكن بطريركها صفرونيوس الذي تولى قيادتها بعد فرار بطريكها على إثر معركة أجنادين – رفض طلب أبي عبيدة، وتحصن بالمدينة آملا في وصول إمدادات ونجدات رومية إليه، وظناً منه أن المسلمين لن يستطيعوا تحمل برد القدس الشديد، مما سيضطرهم لفك الحصار عندما يشتد البرد، وفق ما ورد في كتاب «الفتح العمري للقدس نموذج للدعوة بالعمل والقدوة» للمؤلف شفيق جاسر أحمد محمود، والذي نشرته الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام ١٤٠٤هـجرية.
تحديات ومصاعب فتح القدس
تحمل المسلمون بتجهيزاتهم البسيطة، برد القدس الشديد وأمطارها الغزيرة، ولم تفتر عزيمتهم ولم يفكروا في فك الحصار، وعند حلول فصل الربيع، رأي صفرونيوس أن ما توقعه لم يحدث، فلا الروم أنجدوه، ولا البرد أجبر المسلمين على فك الحصار، فلم يجد بداً من عرض التسليم على أبي عبيدة، ولكنه اشترط أن يحضر الخليفة بنفسه من المدينة المنورة ليتسلم القدس ويعطي أهلها عهداً، وذلك لما كان يسمعه عن الخليفة عمر بن الخطاب من عدالة، ورفق، ووفاء بالعهد.
عمر بن الخطاب يتسلم مفاتيح القدس
أرسل أبو عبيدة رسالته مع رسول من المسلمين يرافقه وفد من أهل القدس أرسلهم صفرونيوس، والتقوا عمر بن الخطاب الذي استجاب لطلبهم، وخرج إلى أهل القدس.. تصاحبه الروايات والأخبار عن تواضعه وحكمته، وزاد من دهشة الروم أنه عندما اقترب من القدس كان يركب ركوبة غلامه، وكان غلامه يركب جمله الأحر، فعندما رآه أهل القدس يركب حماراً صغيراً، وقيل في روايته أخرى أنه كان ماشياً والخادم يركب جملاً أحمر، أكبروه وسجدوا له، فقال لهم «لا تسجدوا للبشر واسجدوا لله».
زيارة تفقدية وخطة إعمار القدس
خرج صفرونيوس ومعه الرهبان والصلبان، فلما وصلوا إلى حيث يوجد عمر بن الخطاب بادرهم بالتحية والسلام، واستقبلهم بمزيد من الاحتفاء والإكرام، وبعد أن تجاذب والبطريق أطراف الحديث، في شأن المعاهدة والتسليم، أخذ قرطاساً وكتب لهم وثيقة أمانهم كما طلبوا، وقد رفض عمر عند دخوله المدينة أن يصلي في كنيسة القيامة، وصلى على مقربة منها، وعندما فرغ من صلاته قال للبطريرك« أيها الشيخ لو أنني أقمت الصلاة في كنيسة القيامة، لوضع المسلمون عليها أيديهم في حجة إقامة الصلاة فيها، وأني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها، وأنتم بها أحق وأولى».
من جانب أخر تأتي رواية المصادر الإسلامية عن فتح القدس لتذكر أن الخليفة كتب للبطريرك صفرونيوس عندما حضر لاستقباله على جبل الزيتون كتاباً، أمنهم فيه على دمائهم وأموالهم وكنائسهم، وقد ذكرت المراجع الإسلامية والنصرانية، نصوصاً مختلفة لهذا العهد الذي عرف بالعهدة العمرية، ثم تجول بصحبة صفرونيوس ليتفقد عدة أماكن، فلما وصلا إلى ساحة المسجد الأقصى، نظر عمر يميناً وشمالاً ثم كبرّ وأمر المسلمين بتنظيف المكان، ثم صلى فيه.
حرص الخليفة عمر بن الخطاب أن تكون بداية عهد المسلمين بعد فتح القدس هي إعادة إعمار المكان، واختار أن يبدأ ببناء مسجد، وقد وصف الواقدي هذا المسجد قائلا «خط عمر بن الخطاب مسجده إلى الجنوب الغربي من الصخرة وصلى وأصحابه به صلاة الجمعة، وكان البناء من الخشب، ويتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي، وغادر القدس بعد أن أقام بها عشرة أيام».
قضى عمر بن الخطاب 10 أيام داخل مدينة القدس، تسلم خلالها مفاتيح المدينة من البطريرك صفرونيوس، وقاما معا بجولة شهدت بداية انطلاق خطة إعادة إعمار البلد الذي انهكته صراعات الروم وحروبها، وكان الخليفة حريصا على تحسن أجواء وأحوال المدينة وتسهيل حياتها سكانها.
في أي عام فتح المسلمين القدس
تبقى الرواية حول فتح القدس كثيرة، وبينها اختلافات أبرزها يخص تحديد عام الفتح، فقد ذكر الطبري عن سيف أنها كانت سنة ١٥هـ ، كما ذكر ابن سعد، وخليفة بن خياط، واليعقوبي، وابن عساكر، والواقدي، والبلاذري، والطبري في رواية أخرى عن سيف أن الفتح كان سنة ١٦هـ، كما ذكر ياقوت الحموي، والبلاذري وابن اسحق، والطبري في رواية سيف عن هشام بن عروة بأن الفتح كان سنة ١٧، والأغلب أن عام ١٧ هو الأصح.