احتضنت رحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان، التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، فعاليات نقاش مستفيض من خلال التئام ثلة من أكاديميين وباحثين وخبراء في علوم الاقتصاد والمالية العمومية والقانون ضمن ندوة وطنية حول “الأبعاد الاجتماعية والرهانات الاقتصادية والمالية لمشروع مالية 2024”.
جلسة الندوة الافتتاحية التي تلتْها جلستان مطولتان، على مدار يوم كامل، تزامنت مع مصادقة مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان) في جلسة عمومية عقدها (الأربعاء)، بالأغلبية، على مشروع قانون المالية رقم 55.23 للسنة المالية 2024؛ والذي حاولت الندوة مقاربَتَهُ علميا في 3 محاور: الأول تناوَل “الإطار والسياق العام لمشروع قانون المالية لسنة 2024، فيما تطرق الثاني لـ”الأبعاد الاجتماعية لمشروع قانون المالية لسنة 2024″، وانصب المحور الثالث حول “الرهانات الاقتصادية والمالية”.
النشاط العلمي، الذي نظمه فريق البحث في القانون والسياسة والتدبير تحت إشراف مختبر الدراسات والأبحاث القانونية والسياسية والتنمية بالكلية المذكورة بشراكة مع “مركز الدراسات حول الحكامة والسياسات العمومية” ومنتدى الباحثين بوزارة الاقتصاد والمالية وماستر “القانون الإداري والسياسات العمومية” سجلت أرضيته “صعوبة السياق الذي تم فيه إعداد مشروع قانون المالية (تراجع النشاط الاقتصادي العالمي، واستمرار التوترات الجيو-سياسية وارتفاع الضغوط التضخمية وأسعار المواد الطاقية، إضافة إلى تداعيات الزلزال المؤلم لـ8 شتنبر”.
وتابعت أرضية الندوة مشيدة بـ”مراهنة الحكومة على رفع التحديات ومواصلة الإصلاحات المدشنة وتفعيل الأولويات المحددة في الخطب الملكية والتي تضمنها البرنامج الحكومي”، معتبرة أنه “جاء محملا في أبعاده بحمولة اجتماعية قوية وتحديات اقتصادية كبيرة”.
مودن: إكراهات تمويل الحماية الاجتماعية
عثمان مودن، رئيس منتدى الباحثين بوزارة الاقتصاد والمالية، لفت، في بداية مداخلته التي حملت عنوان “التغطية الصحية الإجبارية.. إكراهات التمويل والتنزيل”، إلى أن “الحكومة شرعت، مباشرة بعد الخطاب الملكي في افتتاح الدورة التشريعية لأكتوبر 2020، في تنزيل ورش الحماية الاجتماعية؛ وكانت البداية مع القانون الإطار رقم 21-09، الذي أكد على المدى الزمني المحدد في خمس سنوات لتنزيل المحاور الأربعة لهذا الورش”.
واستحضر الدكتور الباحث في المالية العامة، في مداخلته، “المصادقة على أزيد من 56 نصا قانونيا وتنظيميا واتفاقية تهم بالأساس ثلاثة أنظمة للتأمين الإجباري الأساسي عن المرض؛ الأول خاص بالأشخاص غير القادرين على تحمل واجبات الاشتراك “AMO-TADAMON” ، والثاني يتعلق بالمهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا. أما الثالث يهم “الأشخاص القادرين على تحمل واجبات الاشتراك والذين لا يزاولون أي نشاط مأجور أو غير مأجور (القانون رقم 60.22 لم يصدر بعدُ مرسومه التطبيقي)”.
كما نبه رئيس منتدى الباحثين بوزارة المالية إلى “إكراهات تعميم التغطية الصحية الإجبارية”، التي قال إنها “ستصطدم بالحائط، لتصل إلى ما وصلت إليه أنظمة التقاعد بالقطاع العام، أيْ العجز”، مستدلا بمؤشر “تطور النفقات بوتيرة أكبر مقارنة مع الموارد بالنسبة لجل أنظمة التأمين الإجباري الأساسي عن المرض؛ وهو ما يهدد ديمومتها المالية في الصميم”.
“يرجع هذا الاختلال أساسا إلى تدهور العامل الديمغرافي واستفحال مؤشر الإصابة بالأمراض خاصة المزمنة والمكلفة منها (4 في المائة من المصابين بأمراض مزمنة أو مكلفة يستهلكون أزيد من 60 في المائة من نفقات AMO)، وما ينتُج عنه من “استفحال لاستهلاك الأدوية التي تمثل 34 في المائة من نفقات التأمين الإجباري الأساسي عن المرض”، فسر مودن خالصا إلى أن هذا الوضع لا يمكن إلا أن يزداد سوءا في ظل الانتقال الديمغرافي والوبائي.
نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض في القطاع العام الذي يدبره الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي يعرف “عجزا صافيا” حسب المتدخل، الذي أكد أن “نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا سيعرف بدوره -عما قريب- وضعا صعبا، بالنظر إلى إشكالية ضعف التحصيل”.
وبالتبع، أثار مودن “ضرورة التفكير بشكل جدي لإيجاد حلول لإشكالية الديمومة ضمن إطار شمولي ونسقي يمكن من التوفيق بين إكراهات هذه الديمومة ومتطلبات الولوجية وجودة الخدمات، عبر استغلال كل الهوامش المتاحة سواء تعلق الأمر بالرفع من الموارد أو النفقات أو حتى فيما يتعلق بالحكامة”.
بالنسبة للموارد، قال رئيس منتدى باحثي وزارة الاقتصاد إنه “آنَ الأوان لتوحيد أوعية ونسب الاشتراك واستغلال ما يتيحه من هوامش مع إيجاد حلول ناجعة لتحسين عملية التحصيل خاصة بالنسبة للعمال غير الأجراء”، مشددا على “إعادة النظر سياسة توظيف الاحتياطيات على نحو يتيح أكثر مردودية”.
أما بخصوص النفقات، فيمكن اعتبارها قطب الرحى الذي تدور حوله معظم مسببات العجز والتي بحلها سنتمكن فعليا من الجواب على إشكاليتنا. وأضاف: “لا يمكن لإقرار إلزامية البروتوكولات العلاجية والملف الطبي الرقمي ومسلك العلاجات إلا أن يسهم بشكل إيجابي في بناء صرح الديمومة المالية”.
وختم بضرورة الاهتمام بحكامة هذه الأنظمة، “إذ من غير المنطقي -حسبه- وجود هيئتين مدبرتين (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي)”، موصيا بـ”تدبير هذه الأنظمة من قِبل صندوق واحد، أو إقرار نظام واحد وسلة علاجات واحدة لجميع المغاربة”، منبها إلى ضرورة الجدية والزجر مع إشكالية ضعف تحصيل اشتراكات فئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا، في نظام التغطية الصحية الإجبارية”.
الجيراري: “أثر المتغيرات الدولية”
من جانبها، استعرضت سامية الجيراري، عضوة منتدى الباحثين بوزارة الاقتصاد والمالية، “المحاور الأساسية لمشروع قانون المالية لسنة 2024 المستمدة أساسا من التوجيهات الملكية والمتغيرات الوطنية في ارتباطها بالسياقات الدولية”، مسجلة أن “السياق العالمي يؤثر بصفة جد ملموسة على السياق الوطني الذي يعرفه مغربُ اليوم المنفتح على العالم”.
وقالت الباحثة في الاقتصاد والتدبير، ضمن مداخلة لها خلال الجلسة الأولى، إن “استدامة المالية العمومية، والتي هي أولوية من أولويات المشروع، رهينة بنجاعة الاستثمار ومدى قدرة المغرب من الرفع من نسبة النمو من خلال هذه الدفعة الاستثمارية القوية”.
وشددت على خلاصة مفادها أن “المغرب، وفي ظل سياسته التوسعية والتحفيزية للنسيج الاقتصادي، يجب ألا يُهمِل استعادة الهوامش المالية، التي هي أساسية لمواجهة الأزمات”، التي تظل “غير مرتَقبة وصارت متداولة متواترة أكثر فأكثر خلال السنوات الأخيرة”.
الهيري: 3 خيارات اقتصادية
عبد الرزاق الهيري، الأستاذ بكلية علوم الاقتصاد بفاس، تحدث، من جانبه، عن “الخيارات الاقتصادية والمالية الكبرى لمشروع قانون المالية لسنة 2024″، مُجمِلا إياها في ثلاثة: “الأول تشجيع الاستثمار ودعم المبادرة الخاصة في إطار الميثاق الجديد للاستثمار، ثم إنعاش الاقتصاد بدعم القطاعات الإنتاجية الخالقة لنسبة نمو معقولة”، مع “تحقيق استدامة المالية العمومية (المحافظة على التوازنات عبر خفض عجز الميزانية والتحكم بمديونية الخزينة وحكامة المؤسسات العمومية وإصلاح القانون التنظيمي للمالية)”.
ولم يفت الخبير الاقتصادي التذكيرُ بإعداد مشروع مالية 2024 في “سياق يتسم بعدم اليقين ومحيط جيواستراتيجي غير مستقر؛ ما أثر بشكل كبير على تطور المؤشرات الاقتصادية الكبرى (خصوصا نسبة النمو ونسبة التضخم)”، لافتا إلى أن “تحقيق صدقية الفرضيات المعتمدة، لا سيما خفض التضخم، رهين أساسا بتطور المؤشرات الاقتصادية والتساقطات المطرية وتأثيرها على أثمان المواد الغذائية”.
وسجل أن “الآفاق الواعدة لتنظيم تظاهرات كبرى رياضية (كان 2025 وكأس العالم 2030) تجعل أهداف المدى الطويل تصبو لبلوغ السيادة الاقتصادية غذائيا، رقميا، طاقيا وحماية المقاولة الوطنية من المنافسة”.
النكاز: آفاق “إصلاح المقاصة”
زبيدة النكاز، أستاذة التعليم العالي بكلية الحقوق-فاس، ذكرت، في مداخلتها المعنونة بـ”مشروع قانون المالية لسنة 2024 وآفاق إصلاح صندوق المقاصة”، أن الأخير “مشروع مطروح منذ سنوات؛ فالكل يعرف أن المستفيدين منه بالدرجة الأولى ليست الطبقات الفقيرة والمتوسطة بل شركات ومؤسسات كبرى صناعية وفلاحية، وعلى ما يبدو فإن الحكومة تتوجه تدريجيا في أفق سنة 2026 لإلغائه”.
وتابعت منسقة “ماستر الدستور والحكامة المالية” بكلية فاس مستنتجة: “إذن، سيناريو إلغاء صندوق المقاصة قد يكون مفيدا لميزانية الدولة وسيخرج الحكومة من عنق الزجاجة، على اعتبار أنه سيوفر اعتمادات مالية كبيرة كانت موجهة إلى المواد المدعمة (غاز البوتان، دقيق القمح اللين والسكر)، وسيُعاد توجيهها إلى ورش الحماية الاجتماعية”.
ولاحظت مستدركة: “ينبغي أن يكون هذا الإلغاء تدريجيا على مدى سنوات حتى لا يتم المقامرة بالسلم الاجتماعي”؛ وخلصت إلى أنه: “إذا كان التصور الحكومي راعى الطبقات الفقيرة التي ستستفيد من دعم مباشر فإنه لمْ يُراعِ الآثار المحتملة لإلغاء صندوق المقاصة على الطبقات المتوسطة، التي تعد صمام أمان وما زالت تعاني من تبعات التضخم وارتفاع الأسعار”.
المصدر: وكالات