تصعد الفنون الشعبية إلى واجهة المشهد الثقافي في الصيف. وقد احتضنت مدينة مراكش دورة جديدة من المهرجان الوطني للفنون الشعبية طبعة 2023. ثم هيمنت الإيقاعات الشعبية على شكل التعبير عن الفرح بمناسبة تألق المنتخب المغربي لكرة القدم في أستراليا. يتذوق المغاربة يوميا عسل هذا الفن. فكيف وضع النحل الذي يصنع عسل الإيقاعات الشعبية؟
وبهذه المناسبة، هذا حوار مع خالد بنوكريم، الكاتب العام للاتحاد الوطني للفنون الشعبية التراثية.
هل يمكنك تعريف الاتحاد؟ من أنتم؟
الاتحاد الوطني للفنون الشعبية التراثية تكتل لمجموعة من الفرق الفنية الشعبية التراثية، التي تعكس غنى وتنوع الثقافة المغربية بتعدد روافدها الحضارية والتراثية. يسعى الاتحاد، من خلال فلسفة اشتغاله، إلى التعريف بأصالة الفنون الشعبية المغربية وتجذر موروثها الفني المتسم بالغنى والتنوع على امتداد ربوع المملكة الشريفة. كما يسعى إلى الارتقاء بالممارسة المهنية في صفوف الفنانين الشعبيين وتحسين وضعيتهم الاجتماعية، ورد الاعتبار لرموز وأعلام هذه الفنون الأصيلة لحفظ الذاكرة وضمان حق الأجيال في معرفة تراثه الفني وإعداد الخلف لحمل مشعل السلف.
على ذكر السلف والخلف الفني، ما هو معدل عمر الفنانين؟
تضم كل المجموعات تقريبا بين صفوفها شيوخا أعمارهم تجاوزت السبعين سنة، وشبابا بين العشرين والثلاثين سنة. هناك فرق قارة وهناك فرق يتغير أعضاؤها باستمرار، وهذه من مشاكل عدم الاستقرار التي تؤثر على جودة عزف وغناء الفرق.
تعاني جل الفرق التراثية من مشكلة الخلف. من الصعب جدا إقناع الشباب بالعمل بالفنون التراثية. لماذا؟
إن ذلك راجع إلى اعتبارات عديدة؛ لعل أهمها هو التعويضات الهزيلة جدا التي تمنح للفرق، زد على ذلك عدم الاهتمام بمتطلبات الجمعيات الفنية الشعبية التراثية ودعمها من أجل مشاريع تساهم بالأساس في تكوين الخلف.
مستقبلا، ستتحكم نسبة الشباب في إيجاد الخلف وضمان استمرار الفنون الشعبية كقوة ناعمة للمغرب.
حين كتبتُ للاحتجاج ضد إقصاء الفرق الفلكلورية في أنشطة صيفية، علقتَ على الأمر بأني أستخدم مصطلحا غير مناسب. فنون شعبية أم فولكلور؟
رجاء أن لا تصنفهم الفنون الشعبية ضمن خانة الفلكلور.
لا بد أن أوضح لكم مسألة مهمة نسعى من ورائها إلى توضيح رأينا الصريح في تسمية أو بمعنى أصح نعت الفنون الشعبية التراثية الوطنية الأصيلة بالفلكلور، وهذا خطأ كبير ومجحف في حق فرق ورثت الفن من أجدادها وتقاوم بكل ما أوتيت من قوة في سبيل الحفاظ على هذا الموروث الأصيل وحمايته من كل ما من شأنه طمس وتزييف هويته الأصلية. الفرق بين هذه وتلك واضح ولا مجال للمقارنة بينهما، وسأعطيكم مثالا بسيطا سأوضح لكم فيه وجهة نظرنا في هذا الإشكال.
نأخذ مثالا بسيطا: فن الدقة المراكشية فن أصيل ومتجذر في التاريخ، روداني المنشأ وتطور في دمنات فمراكش التي جعلته يكتسب شهرة كبيرة؛ هذا الفن يمتاز بطقوس وحرفية لا يتقنها إلا من تربى ونهل من أيدي عظمائها، بسبب الفلكلرة أصبح كل من هب ودب يختزل هذا التراث في حركات تهريجية ولباس حسب الموضة وحتى الآلات المستعملة حدث ولا حرج، فأصبح اسم الدقة المراكشية منتشرا في كل بقاع المملكة الشريفة وليس بينه وبين الفن التراثي الأصيل أية صلة، حيث تنعدم كل شروط فن وأسلوب الدقة المراكشية الحقيقي.
وقس على ذلك باقي الفنون، عيساوة وكناوة وأحواش وأحيدوس وغيرها من الفنون. لهذا، نحن في الاتحاد نعتز ونفتخر بهويتنا الأصيلة، ونرفض أن ننعت بالفلكلور.
بصدد التسمية سبق أن كتبتُ أن هذا الفولكلور ليس محنطا في متحف؛ بل يمتد في الحياة اليومية. كشف عبد الله العروي، في كتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة، تغير نظرة النخبة المغربية إلى الفولكلور كتعبير قدحي.
الفولكلور مصطلح أكاديمي في مجاله، وهو للتميز عن موسيقى الملاهي الليلية وليس تقليلا من الفن الذي يسري في دمي الآن.
منذ تأسيس الاتحاد تم تنظيم ندوات تخص توضيح الفرق بين الاثنين، وكانت كل نتائج التدخلات تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مصطلح فلكلور مصطلح قدحي ولا يليق أبدا بتراث فني شعبي متجذر في التاريخ وهدفه المحافظة على إرث ثقافي أصيل. لك فقط أن تتصور المد الفلكلوري الذي طغى وامتد في ربوع المملكة ولم يسلم منه حتى المهرجان الوطني للفنون الشعبية بمراكش، هذا المهرجان الذي أسس من أجل صون التراث والحفاظ عليه من أي عبث قد يلحقه بسبب العولمة وتأثير الألوان الفنية الدخيلة. ولنا خير مثال على ذلك ما قاله المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه لمخرج الحفلات حين حاول تكوين الفرقة القومية للفنون الشعبية المغربية على شاكلة المصرية، حيث رفضها رفضا قاطعا بل قام بتوبيخه؛ لأنه لا يعلم الهدف الرئيسي من خلق المهرجان الوطني للفنون الشعبية، لأن هدفه الأسمى حسب قوله رحمه الله هو جعل الشعب المغربي متمسكا بهويته وبأصله وجذوره. أن يعرف الشمالي تراث الجنوبي والمغربي تراث الشرقي وهكذا.
لستُ هنا لأقدم لك محاضرة في هذا الشأن، كل ما هناك حاولت أن أوضح لك المبدأ الذي ننهجه في الاتحاد، نثمن مجهوداتكم في الدفاع عن الفنون الشعبية ونقدر لكم غيرتكم على تراث هذا الوطن.
يموت شيوخ الفن العارفون وتتبدد خبرتهم، متى يتم توثيق الفنون الشعبية التراثية الوطني لصيانتها للأجيال المقبلة؟
منذ تأسيس الاتحاد الوطني للفنون الشعبية التراثية وهذا الحلم يراودنا، حلم رغم صعوبة تحقيقه إلا أننا نؤمن أنه سيتحقق. التراث الشعبي الوطني مهدد بالاندثار، بل سيذهب إلى غير رجعة ولن يبقى مكانه إلا صور بئيسة لفلكلور دخيل عبث بكل الألوان الأصيلة وطمس هويتها.
نادينا بتوثيق الشعر أو الزجل الشعبي الأصيل، أمازيغيا أم عربيا كان؛ لأننا كنا أدرى الناس بالقيمة الفنية الشعبية التي تضيع من بين أيدينا في كل حفلة أو عرس أو غير ذلك من المناسبات التي تشهد حوارات شعرية بين شعراء كبار في كل المناطق المغربية، كنوز يتم تجاهلها تتسرب من بين أصابع أيدينا كما يتسرب الماء.
قامات كبيرة في الميدان الشعبي التراثي غادرتنا إلى دار البقاء دون أن نستفيد منها شيئا، لا كلمات حفظت ولا ألحان وثقت، وخرجت من الساحة دون أي تكريم يذكر.
أعمل على فرق الفنون الشعبية، منذ سنوات. وقد سجلتُ حوارات مع فنانين كثيرين، وفي حالات كثيرة لا يستطيع الفنان الشعبي الحديث عن آلاته وحليّه وزيه وحركات جسده في الرقصات. ما العمل؟
أغلب فرق الاتحاد لها معرفة لا بأس بها بالفنون التي تمارس، إلا أنني أفضل التعامل مع الباحثين في هذا المجال لأن لهم زادا من المعلومات قيم ومعرفة تامة بكل صغيره وكبيرة في مجال الفنون الشعبية. قبل المهرجان الفنون الشعبية بمراكش 2023 بأيام قليلة، نظمنا ندوة حول الفرق التراثية الأمازيغية في المغرب رأسمال اقتصاد وحضاري، قام بتأطيريها كل من الأستاذ محمد أقديم والأستاذ عبد الله بوشطارت، قدمت في الندوة معلومات مهمة جدا عن فن أحواش، وعن ما أصبح يعاني من طرف من يدفعون به إلى الفلكلرة.
حاليا، في زمن الثورة التكنولوجية والإعلامية تحظى الفرق الشعبية بحضور كبير في مواقع التواصل الاجتماعي. هذا يضمن انتشارها بكثافة.
فعلا، لكن هذا سلاح ذو حدين. فما نشاهده حاليا في مواقع التواصل والأعراس وفي حفلات الفنون الشعبية يدعو حقا إلى القلق عن مستقبل الفنون الشعبية التراثية الوطنية. يتم تسريع الإيقاعات لتناسب الرقص الجماعي. يجب حماية التراث من التشويه ومن التغييرات التي تجري في الإيقاعات والرقصات تحت ذريعة ما يطلبه المشاهدون. يجب إقناع الشباب وتحفيزهم من أجل العمل قدما بالفنون التراثية وصونها حتى تُسلم للأجيال المقبة في صورتها الأصلية.
المصدر: وكالات