ما جرى ويجري في النيجر الفقيرة/الغنية، قد يرى فيه البعض سقوطا لآخر ورقات فرنسا ماكرون، التي تعيش خريفها الإفريقي، وقد يرى فيه البعض الآخر، نزالا غير معلن بين “ديك فرنسي” يرقص آخر رقصاته في الساحل والصحراء، و”دب روسي” عالق في الوحل الأوكراني، يحاول تثبيت الأقدام في ملعب إفريقي، كرته باتت تتدحرج بين أقدام قوى كبرى وأخرى إقليمية، تتزاحم وتتنافس في السر والعلن، لامتصاص دماء أو ما تبقى من دماء قارة تحولت إلى ما يشبه المرأة المغلوب على أمرها، التي أضحى جسدها مستباحا للطامعين والأنانيين والعابثين والمتهورين، وقد يرى فيه البعض الثالث، صوتا لإفريقيا التي لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الإهانة والتحقير والتحكم والاستغلال، وصرخة للأفارقة، الذين أضحوا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى، أن طريق الخلاص تمر عبر إزاحة “الديك الفرنسي”، الذي طالما أحكم الخناق على الشعوب الإفريقية، وحرمها من حقها المشروع في الأمن والاستقرار والبناء والنماء والازدهار.
وبقدر ما نحمل مسؤولية محن وأوجاع إفريقيا للدول المتكالبة، وفي مقدمتها فرنسا، بقدر ما نؤاخذ على الأفارقة تقاعسهم وتهاونهم وانبطاحهم، وأنانيتهم وانعدام تبصرهم وتطاحنهم وإصرارهم على ضرب وحدة ومصالح بعضهم البعض، مكرسين بذلك بقصد أو بدونه، واقعا إفريقيا، جعل القارة مجالا جيوستراتيجيا، بالنسبة للقوى الكبرى والإقليمية، لبسط النفوذ وخدمة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية، ولم يكن شعار “محاربة الإرهاب” و”التصدي للجريمة العابرة للحدود”، إلا مبررات مكشوفة، عبدت الطريق، أمام الإمبرياليين “القدامى” و”الجدد”، للسيطرة على منافع وخيرات قارة، غادرها الاستعمار من الأبواب ودخلها من النوافذ.
إفريقيا تحتاج اليوم إلى الصحوة، لطرد الاستعمار الجديد، الذي لم يحمل للأفارقة، إلا الجوع والفقر والمآسي والأزمات وانعدام الاستقرار، بينما أراضيهم، تحتضن خيرات كثيرة من بترول وغاز وذهب وحديد ونحاس وأورانيوم وثروات فلاحية وغيرها، كان بالإمكان أن تساهم في إحداث نهضة تنموية حقيقية، تخلص إفريقيا مما عانته من تحقير واستغلال وإهانة، ومن حروب إبادة واسترقاق، منذ أن امتدت إليها جائحة الإمبريالية الأوروبية، والصحوة ليس معناها، التخلص من “الديك الفرنسي” والارتماء في الحضن الروسي أو الأمريكي أو الصيني، بل القطع بشكل لا رجعة فيه، مع الوجود الأجنبي فوق الأراضي الإفريقية.
إفريقيا اليوم، تحتاج إلى قادة وزعماء مسؤولين يصغون إلى نبض الشعوب الإفريقية المقهورة، يجتهدون في إرساء دولة الحق والقانون والمؤسسات، بعيدا عن أورام المؤامرات والدسائس والفتن والانفصال، كما تحتاج إلى الانخراط في استراتيجيات تنموية جديدة، يتحكم فيها خيط ناظم عنوانه العريض “إفريقيا للأفارقة”، وفي هذا الإطار فالقارة الإفريقية، لا يمكن لها البتة، أن تنهض أو ترتقي في مدارج التنمية الشاملة، إلا إذا وضعت الثقة في أبنائها، وراهنت على ما تمتلكه من خيرات ومنافع، لا تحتاج إلا إلى بيئات سياسية مستقرة وممارسات ديمقراطية حقة، ونخب سياسية شرعية، تضع خدمة الأفارقة، في صلب اهتماماتها وأولوياتها.
المغرب الإفريقي، وخلافا للقوى الدولية والإقليمية التي أتت إلى إفريقيا، من أجل النهب والحلب والاستغلال الخفي والمعلن، نهج منذ سنوات، سياسة إفريقية مسؤولة مع عمقه الإفريقي، تروم نقل الخبرات والتجارب المغربية، في إطار علاقات شراكة وتعاون مبنية على لغة التعاون البناء والمثمر وواقع المصالح المتبادلة وفق قاعدة “رابح رابح”، مجسدا من خلال عشرات اتفاقيات الشراكة التي وقعها جلالة الملك محمد السادس نصره الله منذ جلوسه على العرش، مع عدد من البلدان الإفريقية الشقيقة والصديقة، رؤية ملكية مغربية متبصرة للتنمية في إفريقيا، عمودها الفقري “إفريقيا تثق في إفريقيا”، وهو ما عبر عنه “جسر كوكودي”، الذي دشنه قبل أيام، الرئيس الإيفواري الحسن وتارا، وهذا المشروع التنموي الرائد الذي يدخل ضمن مشروع تهيئة خليج كوكودي، كان من إنجاز الشركة المغربية “مارتشيكا ميد”، التي بقدر ما تعكس قوة وعبقرية السواعد والعقول المغربية، بقدر ما تقوي الإحساس بالأمل، في أن إفريقيا قادرة على النهوض ورفع التحديات، بالثقة في أبنائها والاستثمار الأمثل لقدراتها وخيراتها.
المغرب بحكم الجوار الإفريقي، فهو معني بأزمة النيجر، ومعني بما باتت تعيشه منطقة الساحل والصحراء من انعدام استقرار ومن تدخلات أجنبية مقلقة، تقود إفريقيا إلى المزيد من التشرذم والفقر والبؤس والتخلف، من منطلقات مرتبطة بالأمن القومي الاستراتيجي المغربي، وهذا الواقع الجيوستراتيجي الموسوم بالقلق والتوتر، يقتضي أكثر من أي وقت مضى، المضي قدما في اتجاه الطي النهائي لملف الصحراء المغربية، عبر سحب الملف من الأمم المتحدة وطرد الجمهورية “البطوشية” الوهمية من الاتحاد الإفريقي، لما باتت تشكله من بؤرة للتطرف والإرهاب والجريمة، ومن تداعيات على أمن واستقرار القارة الإفريقية، خاصة على منطقة الساحل والصحراء التي لم تعد تتحمل المزيد من التشرذم والتفرقة والتطرف والجريمة والانفصال.
ونرى حسب تقديرنا، أن الظرفية الجيوستراتيجية التي برزت منذ الإعلان عن انقلاب النيجر، تبقى مواتية لحسم هذا النزاع المفتعل الذي طال أمده، لأن قوة إفريقيا، ترتبط ارتباطا وثيقا بوحدتها وتماسكها وأمنها واستقرارها، وأي احتضان للانفصال أو تطبيع معه، لن يكون إلا تحريكا لنعرة الانفصال، في عموم القارة، وخاصة في الجزائر التي قد تكتوي بنيران الانفصال، ما لم تعد إلى رشدها، وتستوعب أنها، لا تحتضن إلا الوهم والسراب، ولا تراهن إلا على الجبن واليأس، في نزاع مفتعل، حسم المغرب نتيجته منذ المسيرة الخضراء المظفرة.
الأزمة النيجيرية، التي وضعت أمن واستقرار إفريقيا على المحك، وما راكمه المغرب من نجاحات دبلوماسية وازنة عززت وتعزز الأسانيد القانونية والسياسية والتاريخية والواقعية، الداعمة لمغربية الصحراء، وما انخرطت فيه المملكة تحت القيادة المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من تحالفات وشراكات اقتصادية وأمنية واستراتيجية، هي مصوغات أخرى، تفرض استعجال تحريك عجلة الآليات القانونية والسياسية، التي من شأنها طرد الكيان الوهمي من الاتحاد الإفريقي، من أجل إفريقيا موحدة ومتماسكة ومتعاونة وآمنة ومستقرة، والبلدان الإفريقية المنضوية تحت لواء الاتحاد الإفريقي، خاصة التي تقف في صف التردد أو تتموقع في المنطقة الرمادية أو مازالت مصرة على الاعتراف بالكيان المزعوم، لا بد لها أن تدرك أن رهانها على الانفصال أو تطبيعها مع أطروحة الوهم، معناه الإسهام العمدي في تفكيك بلدان القارة، والتطبيع مع كل الحركات والكيانات التي تتربص بوحدة مجموعة من البلدان الإفريقية، ومن ضمنها الجزائر “الراعي الرسمي للوهم والانفصال” داخل القارة.
ولم يعد أمام هذه الدول من مبرر أو خيار، سوى الاعتراف الذي لا محيد عنه بمغربية الصحراء، والانخراط اللامشروط في نزال طرد الكيان الوهمي من الأسرة الإفريقية، وفي اعترافها، تزكية لوحدة إفريقيا وتعزيز لأمنها واستقرارها، وإسهام في نهضتها الشاملة، وقبل هذا وذاك، إقفال الأبواب أمام القوى الأجنبية، التي تروم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، بعثرة أوراق إفريقيا وإثقال كاهلها بالمؤامرات والانقلابات، والفتن ما ظهر منها وما بطن، بما يخدم مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
وفي المجمل، فالمغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، وملف النزاع المفتعل، لم يعد مقبولا أن يظل مفتوحا إلى ما لا نهاية له، كما لم يعد مقبولا أن يبقى ملفا في يد عدد من القوى، يوظف من أجل ممارسة الابتزاز الرخيص والمساومات الوضيعة في حق المغرب، وآن الأوان لطيه نهائيا، استثمارا لكل ما تحقق من مكاسب دبلوماسية منذ واقعة الكركرات، على أمل أن تكون “أزمة النيجر”، فرصة مواتية أمام إفريقيا والأفارقة، للتحرر والانعتاق من مخالب الإمبريالية، والانخراط المشترك في رسم مستقبل جديد لقارة، قادرة على أن تقرر مصيرها بنفسها، بمعزل عن الفرنسيين والروس والأمريكيين والصينيين وغيرهم.
المصدر: وكالات