وهي عودة تختلف معطياتها كلية عن الظروف التي هيأتها المملكة وقيادتها الرشيدة التي تقود العالم نحو التنمية والاستقرار والحفاظ على الأمن وسلام الأرض بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية – في السادس من مايو الماضي، لحل الأزمة قبل استفحالها. فعودة الطرفين لطاولة التفاوض، تأتي بعد أن بات من المرجّح التدخّل الأممي عسكريًّا، سواء عن طريق الاتحاد الأفريقي، أو الأمم المتحدة، لحمل الطرفين على وقف العمليات العدائية، ولهذا فالعودة إلى منبر جدة يمثل الفرصة الأخيرة للأطراف السودانية لحل القضية في ما بينها بالحوار، والتواطؤ على حلول سلمية تقي السودان من كلفة التدخل الأممي، وتزيح عنه شبح الحرب الأهلية، التي توشك أن تعم كل ربوعه، في ظل اشتعال بؤر الصراع في بعض أقاليمه النائية، وبخاصة إقليمي دارفور وجزء من كردفان..
إن نجاح هذه الجولة من التفاوض، عبر منبر جدة، رهين بتوفر الإرادة الحقيقية من أجل وقف الاقتتال، والاقتناع بضرورة الحل السياسي السلمي، بوصفه المخرج الوحيد من الأزمة، فلا وقت للمناورة والتكتيكات السياسية كسبًا للوقت، وبحثًا عن نصر زائف في حرب «عبثية» بتوصيف «الجنرالين»، ولا وقت لتمديد مدد الهدن التي لا يلتزم بها الطرفان غالبًا، فضلًا عن استغلالها فقط لالتقاط الأنفاس، وإعادة التمركز وتوفير مزيد من الوقود للحرب دون استشعار حقيقي لخطرها الماحق. وهو أمر نكاد نلمسه ونستشعره واقعًا على الساحة السودانية، فمن غير الخافي على أي مراقب استبيان سطوة الخطاب المُسعّر لنيران الحرب، والحاض على الحسم العسكري. وهو خطاب تتولاه «جماعة» ركبت على ظهر السودان لمدة ثلاثين سنة خلت، وما زالت تمسك بمفاصل قيادة الجيش وتقوده إلى هذه المحرقة والمواجهة مع فصيل كانت تعده، إلى وقت قريب جزءًا منها، ونصيرًا لها في حربها على الحركات المتمردة بحسب وصفها، لتجعل من الخرطوم ساحة قتال مفتوحة، بحثًا عن «عودة» لكراسي الحكم، وإعادة إنتاج أزمة السودان في عقوده الثلاثة الماضية، بتحويله إلى بؤرة لتصدير أيديولوجيا التطرف والغلو التي عرفت بها «الجماعة»، وبدّلت بها وجه السودان؛ الذي لم يعرف الغلو والتطرّف والمواقف الرادكالية طوال مسيرته السابقة، بما أسّس لصورة زاهية عن الشخصية السودانية، كادت أن تمحوها الحقبة السابقة، أو تطمس معالمها بما اقترفته من مآثم التغيير المجتمعي وفق ما اسمته زورًا وبهتانًا بـ«المشروع الحضاري»..!
من المؤسف حقًّا أن يعيش السودان منذ استقلاله قبل (67) عامًا حالة من الصّراع والاحتراب في أطرافه، لتنتقل اليوم إلى العاصمة الخرطوم، والأكثر أسفًا أن يكرّر موقدو الحروب والفتن فيه ذات السيناريو الكارثي، الذي يبدأ بـ«البندقية» وينتهي إلى «طاولة التفاوض»، في مشهد مكرور وسمج، تكون حصيلته المعروفة والمنتظرة؛ ذهاب لنفوس بريئة، وتحطيم للبنية التحتية المنهكة أصلًا، وحرق ونزوح وتشريد وجوع وفقر وإفقار وبؤس عام.. وربما يصل الأمر في خاتمته إلى الفصل عن سلطة الخرطوم، وتقسيم البلاد بتكوين دويلات تحمل في طياتها ذات البذرة من الشقاق والصراعات الكارثية، وعدم القدرة على الصمود أمام أهون التحديات.
مشهد عبثي متكرر، استشعرته المملكة وقيادتها الرشيدة منذ اللحظة الأولى لاندلاع هذه الحرب العبثية، فبادرت على الفور وبتهيئة منبر جدة للسودانيين لإنقاذ الوضع قبل أن يستفحل ويخرج عن السيطرة، الأمر الذي لم يستبن طرفا الصّراع جدواه، وها هم يعودون إلى المنبر مرة أخرى، فإن فوّت الفرقاء السودانيون الفرصة في جولة مايو الماضي، فعليهم اليوم أن يدركوا جيدًا أن العودة ثانية إلى منبر جدة ليست كسابقتها، وأن الارتهان إلى الخطاب «البسوسي» المقيت، الذي يُعلي من التوجه نحو الحل العسكري، حتى لو اقتضى الأمر التعامل بمبدأ الأرض المحروقة، والإبادة الكلية، وتكريس ثقافة الموت والدمار الماحق، خطاب سينتهي بالسودان إلى كارثة سيتعدى خطرها وأثرها محيطه المحلي إلى الإقليمي، وهو ما استشعرته دول جواره، وسارعت إلى بحث سبل الحل الممكن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
ليس أمام الفرقاء المتصارعين في هذه الجولة وقت لتقليب الخيارات على مبدأ الكسب الشخصي أو الحزبي أو الأيديولوجي، فليس أمامه من خيار إلا انتشال السودان من الوهدة التي وقع فيها، والمستنقع الذي غرق فيه، وهذا يتطلّب إرادة قوية، وتضحيات مهمة، ونظرة تذهب أبعد من كراسي الحكم، وتضع مصلحة السودان وشعبه الطيب في أولويات أجندتها، وتتيح الفرصة أمام الكوادر السودانية القادرة على حمل هذه الأمانة بكل اقتدار، وما أكثرها، فالمهاجر والمنافي تضم الآلاف منهم في كافة التخصّصات والمجالات، وهي أجدر بتولي زمام هذا البلد، وإعادته إلى سابق عهده.
نسأل الله أن تحقن دماء السودانين من أرض جدة وبمباركة قادة الوطن وحكمائه. ونجاحات ولي العهد الأمير محمد الخير غير المسبوقة في الكثير من المواقف والأحداث بتوفيق الله ونصره.