يوم 3 أبريل 2023 توصل رؤساء الجامعات بمذكرة وزارية موقعة من طرف وزير التعليم العالي، بشأن طلبات اعتماد مسالك التكوين برسم الدخول الجامعي 2023-2024. وقد كان لافتا للانتباه أن استناد هذه الطلبات إلى دفتر للضوابط البيداغوجية الوطنية لم يعرض بعد على اللجنة الوطنية لتنسيق التعليم العالي، ولم يصدر بالتالي القرار المتعلق به في الجريدة الرسمية. بالإضافة إلى ذلك حددت المذكرة تاريخ 2 ماي 2023 بمثابة آخر أجل لتقديم الملفات، علما أن إعدادها يتطلب دراسات ومشاورات وبالخصوص اتباع مسطرة دقيقة تمر عبر عدة مراحل: يتم إعداد مشروع المسلك وفق الملف الوصفي لطلب الاعتماد، من طرف فريق بيداغوجي ينتمي إلى شعبة أو لعدة شعب، وبإشراك متدخلين من مؤسسات أخرى وفاعلين من المحيط الاجتماعي والاقتصادي، ويتم تقديم طلب اعتماد المسلك إلى رئيس المؤسسة متضمنا رأي رئيس الشعبة التي ينتمي إليها المنسق البيداغوجي للمسلك، من أجل عرضه على مجلس المؤسسة بعد تقديمه للجنة الشؤون البيداغوجية للمؤسسة، قصد المصادقة عليه، على أن يقدم طلب الاعتماد في النهاية من طرف الجامعة إلى السلطة الحكومية المكلفة بالتعليم العالي، وذلك بعد تقييمه من طرف اللجنة البيداغوجية للجامعة، والمصادقة عليه من لدن مجلس الجامعة. كل هذه العمليات لا يمكن إنجازها بالدقة اللازمة في أجل شهر وهي المدة التي حددتها المذكرة، حتى عندما يتعلق الأمر بتجديد الاعتماد لمسلك قائم يحتاج بعض التعديلات، فأحرى إذا تعلق الأمر بمسالك جديدة كان متوقعا منها أن تجسد مقومات الإصلاح الجديد لمنظومة التعليم العالي كما نصت عليها الرؤية الاستراتيجية وأكد عليها القانون الإطار للتعليم الذي صدر منذ أربع سنوات.
لقد كانت توجهات الإصلاح معروفة منذ سنة 2015 تاريخ صدور الرؤية الاستراتيجية واكتست طابعا قانونيا ملزما سنة 2019، وأصبحت منذ ذلك التاريخ الكرة في ملعب السلطة التنفيذية التي كان منتظرا منها أن تترجم التوجهات الكبرى إلى سياسات عمومية قابلة للتنفيذ وواعدة بتحقيق الأهداف المسطرة. هذه الهندسة الإصلاحية تمر بالضرورة عبر ترجمة القانون الإطار إلى مخطط تشريعي وتنظيمي واضح المعالم ومجسد حقيقة لروح التوجهات الاستراتيجية قبل شكلها. في قطاع التعليم العالي كانت الحكومة السابقة قد بلورت تصورا لتنزيل الإصلاح ركز على سلك الإجازة من خلال ما سمي آنذاك بسلك الباشلور، الذي شرع في تجريبه في بعض الجامعات بناء على مسالك تم اعتمادها وفقا لدفتر جديد للضوابط البيداغوجية الوطنية لم يصدر في الجريدة الرسمية. وقد طلبت الحكومة في نهاية ولايتها رأي المجلس الأعلى للتربية والتعليم في هذا الدفتر وفي المرسوم الذي يحدد اختصاص المؤسسات الجامعية وأسلاك الدراسات العليا وشهاداتها، وهما معا نصان تنظيميان لا يطال التعديل الذي طرأ عليهما في مجمله سوى مدة السلك الذي أصبح أربع سنوات بدل ثلاثة، وعدد الوحدات المدرسة ومدة كل وحدة وطبيعة هذه الوحدات. وكان من الممكن أن ينصب رأي المجلس على مضمون النصين وتقتصر توصياته على تجويدهما، غير أنه أخذ توجها آخر يضع الاستشارة في سياق الإصلاح الشمولي للتعليم العالي ويسائل من خلاله مدى تملك القطاع الوصي لتصور متكامل لتطبيق توجهات الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار.
اليوم نحن أمام حالة مشابهة تغيرت فيها فقط الحكومة التي طلبت الرأي وبعض العناصر القليلة في موضوع الطلب، لعل أبرزها هو عدم تغيير عدد سنوات الإجازة الحالية، أما في الجوهر فقد تم الاحتفاظ بأهم ما جاء في سلك “الباشلور” من إضافات متعلقة أساسا بالمهارات المرنة وإن اختلفت التسميات. رغم هذا التشابه فإن رأي المجلس الأخير سلك نهجا مغايرا تماما لسابقه، بل وحتى للآراء التي صدرت في الوقت نفسه وهمت قطاع التربية الوطنية، وظل منحصرا في دائرة الإجابة التقنية المحضة على مضامين المرسوم والقرار الذي صدر في شأنهما الرأي، مع ميل واضح إلى تثمين التعديلات التي قامت بها الوزارة رغم أن جلها لم يكن يحتاج إلى تعديل المرسوم أصلا مثل الأرصدة القياسية وملحق الدبلوم والتأهيل الجامعي الذي يوجد مرسوم خاص ينظمه، بل إن توصية المجلس بضـرورة تسـليم هـذه الشـهادة حصـرا من طـرف المؤسسات الجامعية الي تتوفر على تكوين في سـلك الدكتـوراه مأخوذ بها في المرسوم الجاري به العمل منذ 1997. وعندما قدم اقتراحات فإن الرأي اقتصر إما على توصيات شكلية من قبيل “الاقتصار على تسمية واحدة للإجازة بدون تخصيص”، و”الاقتصار على تسمية المسلك على المسار”، أو توصيات عامة مواكبة لتفعيل المرسوم والقرار ولا يفهم منها إعادة النظر فيهما إلا عندما يوصي الرأي بتدقيق برمجة الوحدات العرضانية أو إدراج وحدة خاصة باللغة العربية في الوحدات العرضانية، تدرس في المسالك المدرسة بلغة أجنبية. أما الإجراءات التي كانت تستدعي نقاشا مستفيضا من طرف رأي المجلس وتقديم توصيات حازمة بخصوصها فقد كان لافتا للانتباه تحاشي الخوض فيها.
أولا، يقترح مشروع القرار حذف مشروع نهاية الدراسة والتداريب، ورغم أن الرأي أقر بأن هذا الإجراء تم دون تقييم علمي ودون اقتـراح بدائل فإنه لم يدع الوزارة إلى إرجاء اتخاذ القرار لما بعد تقييم العمل بهذا المشروع، بل يفهم من قراءة الفقرة المرتبطة به أن المجلس يتبنى هذا القرار. والغريب أن الوزارة أعدت دفترا للضوابط البيداغوجية لسلك الإجازة موجها إلى مؤسسات التعليم الخاص يتضمن مشروع نهاية الدراسة وهو ما يشكل تمييزا ما بين التعليم العام والتعليم الخاص لفائدة هذا الأخير أملته ببساطة قلة الإمكانات وضعف نسبة التأطير في المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح.
ثانيا، تم حذف المواد التـي كانت تتحدث عن الإجازة المهنية في دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية غير أن الرأي لم يناقش بتاتا هذا القرار رغم تذكيره في المرجعيات بما دعت له الرؤية الاستراتيجية من توطيــد للتكوينات الممهننة العليا. فإذا كانت الوزارة قد اتخذت قرار حذف الإجازات المهنية وتعويضها بوحدتين ممهننتين في سلك الإجازة فهذا من حقها، لكن المستغرب هو ألا يناقش الرأي هذا القرار رغم أن له لا ريب تأثيرا قويا على الهندسة البيداغوجية للتعليم العالي. أكثر من ذلك فإن توجه المخطط الوطني لتسريع تحول المنظومة نحو إطلاق مسارات جديدة للتميز بالمؤسسات ذات الولوج المفتوح لم يجد مكانا له لا في المرسوم ولا في القرار موضوع الرأي، دون أن ينبه إلى ذلك هذا الأخير رغم الانعكاسات المتوقعة لهذه المسارات على جودة التكوين وعلى تكافؤ الفرص داخل هذه المؤسسات، ورغم أن المجلس سبق أن انتقد في رأي سابق تبني مسارات موازية للإجازة الأساسية لأنها غالبا ما تستقطب اهتمام المسؤولين فيتم ذلك على حساب المسار العادي الذي لا توفر له أدنى مستلزمات التكوين.
ثالثا، لم يذكر رأي المجلس بما سبق أن أصدره من توصيات في قضايا مشابهة رغم أن دواعيها مازالت قائمة. من ذلك أن إدخال وحدات للغات الأجنبية والمهارات المرنة في سلك الإجازة سيؤدي إلـى انخفاض واضح في الغلاف الزمني المخصص للوحــدات المعرفية، بحيث سيتقلــص، مقارنة مـع الإجازة الحالية، بما يعادل 215 ساعة بالنســبة للوحــدات المعرفية وبما مجموعـه 175 ساعة بالنســبة لوحــدات اللغــات الأجنبية، مع تخصيص غلاف زمني لوحدات الكفايات الحياتـية والذاتـية سيصل إلى 14% من الغلاف الزمنـي الإجمالي. وسيؤدى هــذا التغيير إلى نقــص في نســب الغلاف الزمني المخصص للوحــدات المعرفية مــن 80% إلى 67%، ولوحدات اللغـات الأجنبية من 20% إلى 14%، وهي نسب لا تبتعد كثيرا عن تلك التي تبناها سلك “الباشلور” بحيث كانت على التوالي 54% و13%. أما وحدات الانفتاح فإنها غابت في دفتر الضوابط البيداغوجية إلا إذا اعتبرنا الوحدتين الممهننتين، وفي هذه الحالة سوف لن يتجاوز حضورها 5% من الغلاف الإجمالي لسلك الإجازة. هذه الأرقام تؤكد أن خريج الإجازة الجديدة سيتراجع مستوى تمكنه من الكفايات المعرفية، ليس فقط بحكم تراجع عدد ساعات الوحدات المعرفية، ولكن أيضا بحكم تدني مستوى الحاصلين على شهادة البكالوريا، كما أن الغلاف الزمني المعتمد لتدريس اللغات الأجنبية غيـر كاف لبلوغ أهداف اكتساب اللغات، خاصة مع التراجع المسجل في عدد ساعات تدريسها وتبني التدريس عن بعد بحصة تصل إلى 70%.
رابعا، لم يأت الرأي على أي ذكر للجنة الدائمة للبرامج رغم أن إعداد دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية يبقى من صميم مهام هذه اللجنة، التي أوكل لها القانون الإطار مهمة التجديد والملاءمة المستمرين لمناهج وبرامج وتكوينات مختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، مع مراعاة خصوصيات كل مكون من هذه المكونات. كما أن الرأي لم يذكر الوزارة الوصية بضرورة ربط مضامين التكوينات بالإطار الوطني للإشهاد المنصوص عليه أيضا في القانون الإطار.
خامسا، يؤكد المجلس على أهمية اعتماد مقاربة الجمع بيـن نمطـي التدريس الحضوري والتدريس عن بعد التي تبناها مشروع القرار وكانت موجودة في القرار الجاري به العمل، لكنه لم يثر انتباه الوزارة إلى كونها اعتبرت تقنية التواصل المرئي باستعمال المنصات التفاعلية من مشمولات التدريس الحضوري وهو ما سيسهم في الرفع من نسب هذا النوع من التدريس في تناقض مع حقيقة الأشياء.
لقد طلبت الحكومة رأي المجلس في دفتر الضوابط البيداغوجية يوم 25 ماي 2023 أي بعد حوالي شهر من انقضاء أجل تقديم طلبات الاعتماد وفق هذا الدفتر، ولا يفهم من قراءة رأي المجلس كما سبق توضيحه أنه يعارض ما ورد فيه، وهو ما يعني إعطاء الضوء الأخضر للوزارة لتطبيق الإصلاح على مستوى سلك الإجازة ابتداء من الدخول المقبل. لكن يبقى العائق “القانوني” الذي يجسده السؤال التالي: هل يمكن تطبيق النص موضوع الرأي بأثر رجعي؟ أم ينبغي إعادة مسطرة تقديم طلبات الاعتماد بعد نشر القرار الخاص بدفتر الضوابط البيداغوجية الجديد؟ لكن السؤال الأبرز هو لماذا طلبت الحكومة رأي المجلس في نصوص تنظيمية بسيطة في حين لم تطلبه في نصوص أهم مثل النظام الأساسي للأساتذة الباحثين، ولا في نصوص مماثلة مثل دفاتر الضوابط البيداغوجية الوطنية في تخصصات الطب والصيدلة التي تم تغييرها دون أخذ رأي المجلس، رغم أنها شملت قرارا خطيرا يتعلق بخفض سنوات التكوين من سبعة إلى ستة، وهو ما سيؤثر حتما على جودة التكوين في هذه التخصصات الحساسة؟
الجواب في المادة 12 من القانون الإطار التي تنص على إعادة هيكلة التعليم العالي عبر تجميع مختلف مكوناته لما بعد البكالوريا، على أساس الانسجام والتكامل والفعالية وفق مخطط متعدد السنوات متشاور بشأنه بيـن جميع الفاعلين، يتم تنفيذه بصفة تدريجية، ووفـق برمجة زمنية محددة، أخذا بعين الاعتبار تطـور الأنظمة الجامعية على الصعيد الدولي، وعرضه على المجلس الأعلى للتـربية والتكوين والبحث العلمي لإبداء الـرأي بشأنه، مع اعتماد نظام بيداغوجي يستجيب لمتطلبات التنمـية الوطنية، ويـنفتح على التجارب الدوليـة، مع توفير الوسائل والإمكانات المناسبة لتطبيقــه وتطويره بكيفية مستمرة ودائمة.
فمتى تطبق الحكومة هذا المقتضى القانوني الملزم؟
المصدر: وكالات