إلى نهاية الستينات من القرن الماضي كان ولوجه، مصحوبا برهبة وترقب، يشبه عبور نفق سري، مغرق في الغرابة، محفوف بالتوقعات. عالم مسربل بالأسرار، منغلق على نفسه، مبهم الملامح، منوط بالرهبة والتخيلات. غير أنه عالم التناقضات منكمش ومنفتح في الوقت ذاته. هنا التقية والعلنية، نعوت وأحكام غامضة تسير في خطى مدثرة بالحجب، كالعابر في سرداب أو قمقم سحري، داخله مفقود والخارج منه كأنه مولود. حين كنا أطفالا كانت ذاكرتنا تتصور “الملاح” عالم السحر والسحرة العظام، عالم اللعنة الأبدية، الخطيئة، التي تنفجر في دروبه وأزقته خمرة معتقة اسمها “ماحيا”، ماء الحياة، وقصائد خلع العذار. عالم يموج بالخيال والأسطورة، الثراء والقدارة، وازدواجية الحب والكراهية. هذه التصورات كبرنا معها ونحن صغار، وواكبتنا دهرا من الزمن، ثم زكتها أمثال ومقولات شعبية متداولة تحوم حول هذا العالم وساكنته:
“تقول مربي فلملاح”، للمكر، “بحال إلى كتجر اليهودي يسلم”، للعناد، “ها هو الملاح ماشي لهيه”، للخديعة، “ما تيقش بلهودي إلى سلم، وخا بعد ربعين جد”، عدم الثقة، بحال جنان اليهودي، كولو ولعن مولاه”. للجحود، “صرف اليهود معقول لعنهم الله”، للاعتراف بقدرات اليهود التجارية، “اليهود، كول مكلتهم ولا تنعسش ففراشهم. “لازدواجية التعامل معهم.
لقد زخرت الذاكرة الفاسية عبر تلك المعاشرة الطويلة لليهود، سواء حين كانوا يعيشون ممتزجين بالمسلمين في المدينة القديمة، أو بعد انتقالهم إلى حيهم الخاص الملاح، بعشرات من الأمثال الشعبية والمقولات المتداولة حولهم وحول محيطهم. كما أن لليهود هم الآخرون العشرات من الأمثال الشعبية والمقولات في المسلمين.
لا يمكن الحديث عن فاس الجديد دون الحديث عن الملاح. حيث كان دخوله منوطا بأحكام، يسبقها ما يسمع عن الملاح من المجون والشيطنة، يسعى خلفها الباحثون عن المتعة غير المقيدة، وعوالم السحر والسحرة التي يرتادها الساعون من كل حدب وصوب وراء شفاء من مرض ما، أو البحث عن حل لمعضلة ما عن طريق التمائم والطلاسم، متمسكين بمشاهد المبارزات السحرية بين موسى وسحرة فرعون في القرآن.
كانت دروب الملاح، يبدو أكثرها عتمة، حبلى بالألغاز والقصص الكتومة. تلفها غلالة سميكة مدثرة في عباءة اللبس، مسربلة بالظل والظلام، ومحتجبة خلف كوات ضوء شحيح. كان دخول الملاح للقادم من فاس البالي عبر فاس الجديد أو عن طريق الشارع، الذي شق من بين ضلوع دور الملاح، التي كانت قديما ملتحمة بصور فاس الجديد وبحائط دار المخزن، غالبا ما يتم عبر مسلك المنفذ المقابل لبوابة السمارين، التي لا تفصلها عنه إلا أمتار معدودات. يفاجأ المرء عبر مدخل الملاح الشرقي هذا بهندسة شرفات واسعة للمنازل، مشرعة من الجانبين على الشارع الفاصل اليوم بين الملاح وفاس الجديد “بولخصيصات،” انفتاح على طول الفضاء الخارجي لهذا الشارع، حيث اليهوديات في الماضي كن يقفن سافرات الوجه ينشرن الغسيل أو يتجاذبن أطراف الحديث أو يقمن بأعمالهن المنزلية بكل عفوية وارتياح. أسلوب حياة وسلوك يومي لا تعرفه نساء دور ومنازل فاس القديم ولا فاس الجديد.
حارسة الملاح
حتى نهاية الثمانينات، وأنت تدخل الملاح من جهة باب السمارين، تلاقيك عند الزاوية اليمنى لمدخله، المنفتح على شارع بولخصصات، سليكة، كحارسة أمينة على إرث آبائها وأجدادها. تجلس مثل تذكار حي متحرك، لم تهزه عواصف يونيو، ولا إغراءات أرض الميعاد. كانت سليكة تملك دكانا لبيع الأدوات الحديدية، من مسامير وسلاسل وملاقط وشبه كل ما له علاقة بهذه التجارة. طويلة القامة، تجاوزت الأربعين أو ربما الخمسين من العمر، هجرها جزء كبير من جمالها، مفتولة العضلات، ربما اكتسبت بنيتها القوية من جراء مهنتها الحديدية. كانت دائما تجلس خارج دكانها، في لباس خفيف، تضع رجلا على رجل مرتدية تنورة قصيرة، تكشف عن معظم ساقيها الطويلتين حتى عمق الفخذ، بلون جلدهما المائل إلى بياض داكن. تدخن السيجارة ودائما في أحاديث خليط من العربية والفرنسية بلكنة يهودية فاسية مميزة. ومن حولها جيرانها التجار والمعجبون بها، الذين كانت عيونهم تفشي اشتهاء عميقا لهذه المرأة المخضرمة. كانت مغربية العمق، يهودية المنبت، وبقيت اليهودية الوحيدة المتشبثة بدكانها وبالملاح حين هجره اليهود الآخرون إلى المدينة الحديثة الفرنسية، أو إلى خارج فاس أو حتى خارج المغرب.
في انسياب يمتد مدخل الملاح في أمتار محسوبة، محفوف الطرفين بدكاكين صاغة الذهب والفضة والمجوهرات. يعبره مزيج من اليهود في لباسهم الأسود ومسلمون جاؤوا إلى الملاح كل لغايته. في هذا المدخل أذكر، وأنا في سن الثامنة من العمر أو التاسعة، ثلاثة شباب يهودا بيض السحنات في لباسهم الأسود والطاقيات على رؤوسهم، كيف تعرضوا إلى مضايقة من شباب آخرين، على سبيل المتعة والتسلية، فأسقطوا طاقية أحدهم على الأرض، لكن الشباب اليهود لم يستسلموا لهذا السلوك الأرعن، فكان رد فعلهم قويا. ثم انتهى المشهد عاديا ككل مشاهد المضايقة اليومية بين الأولاد اليهود والمسلمين أو المسلمين في ما بينهم. ما أن تعبر داخلا إلى الملاح تجويفته الأولى الملتوية بعض الشيء، حتى تقف تحت قوس عات، كان في الماضي بوابة مدخل الملاح الرئيسية، التي كان العسس يحرسونها ليلا. تثير انتباهك ساعة عصرية كبيرة في أعلى هذا القوس المفضي إلى الشارع الرئيسي للملاح. شيء غير مألوف في كل مدينة فاس القديم وفاس الجديد، بل وفي كل المدن المغربية العتيقة. بعد زمن من خروج آخر فوج من يهود الملاح، تعطلت الساعة إلى يومنا هذا عن عد الزمن، وبقيت شاهدا على زمن ولى. يشق هذا الشارع الرئيسي صدر الملاح من باب السمارين في خط مستقيم تقريبًا باتجاه الجنوب الغربي حتى باب العامر. كان هذا الشارع هو الشارع الرئيسي وسوق الملاح ويحمل اسم درب السوق. ربما كان الشارع في الماضي أوسع كثيرًا مما هو عليه اليوم ودون ريب كان يتميز بساحة سوق كبيرة ولكن مع مرور الزمن ولضرورة ضيق مساحة الحي تم بناء المتاجر والمنازل على جانبيه. الطرف الغربي الأخير للشارع ضيق للغاية وعتم وكان في السابق طريقة مسدودا، ولكن تم افتتاحه بعد عام 1912 عندما أنشأ الفرنسيون ساحة مفتوحة تسمى Place du Commerce خلف باب العامر، مما أعطى للملاح متنفسا، سمح للزوار والعابرين اليوم دخوله من جانبه الغربي أيضًا.
تتخلل هذا الشارع الواسع الوحيد في الملاح، دروب وأزقة تتراوح بين السعة والضيق، النور والعتمة، والدور البسيطة الفقيرة وأخرى ثرية باذخة ذات الطراز المعماري المغربي مع مغالاة كثيرة في زخرفات الزليج والجبس بشكل مفرط وتزيد على الدور الإسلامية برواق من خشب مخصص للمرأة في مرحلة حيضها. فاليهود المحافظون يعتزلون النساء في المحيض كلية، في كل مرافق الحياة اليومية. لهذه الدور سراديب ومخابئ سرية، تحسبا لكل هجمة أو فتنة لا تصيب إلا الذين هادوا أولا. يمتد هذا الشارع واسعا مستقيما خاصية تفردت بها فاس الجديد عن متاهة فاس القديمة، إلى أن ينتهي في ساحة التجارة، أو ساحة العلويين، حيث منتزه الملاح، “جنان السبيل دليهود”، الذي كان يضم إحدى أعرق المقاهي الشعبية القديمة الشهيرة “قهوة السطنبولي”، التي كانت تجثم على حافة نهر يعبر الحديقة، يتردد عليها عشاق الكلاسيكيات من الطرب الشرقي والملحون والشكوري اليهودي. وقد بقيت هذه المقهى قائمة إلى نهاية الثمانينات، ثم اختفت إلى الأبد، بعد توسيع ساحة القصر الملكي.
من البالي إلى الجديد
لا يمكن إغفال الحي اليهودي، الملاح، عند الحديث عن مدينة فاس بأجزائها الثلاثة، كجزء ملتحم بمدينة فاس الجديد وبتكوينه العمراني والجغرافي. حول تاريخ وجود هذا الحي هناك العديد من الآراء المختلفة، بل وأيضا عن انتقال اليهود إليه من المدينة القديمة. فهناك من يرى أن الحي تأسس منذ بناء فاس الجديد، اعتمادا على ما جاء في كتاب “روض القرطاس” لابن أبي الزرع وهو مؤرخ من عصر بني مرين. غير أن حديثه عن الملاح لم يكن من الوضوح بما فيه الكفاية للجزم بأن اليهود انتقلوا إلى موطنهم الجديد فور الانتهاء من إنشاء الحي الإسرائيلي. فقد أشار ابن أبي الزرع إلى أن الحي اليهودي بالمدينة القديمة كان قد تعرض لهجوم ليلة تأسيس فاس الجديد بالذات، مات على إثر ذلك الهجوم أربعة عشر يهوديا، فنُقل اليهود إلى مكان الملاح بغرض حمايتهم من غضب الشعب. وفيما سيرد لاحقا، يتبين أن هذا الانتقال إلى الملاح لم يكن نهائيا، فلربما مؤقتا فقط. فصاحب كتاب “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، أحمد ابن فضل الله العمري (1301 ـ 1349)، يقول إن التجمع اليهودي لم يكن في القرن الرابع عشر الميلادي متواجدا في فاس الجديد. وفي القرن السادس عشر، تحدث كل من الرحالة والمؤرخ الإسباني لويس دل مارمول كرفخال (1520 ـ 1600) والحسن الوزان عن فاس الجديد. وهما يؤكدان معا نظرية ابن فضل الله العمري نفسها. وشهادة مارمول والوزان يؤكدها مؤرخ يهودي في كتاب (سماش) الذي يعود إلى آخر القرن التاسع عشر، حيث يقول بأن ميمونا سكن في بداية القرن الرابع عشر دار “المكانة” (بالطالعة الكبيرة) كما أورد روجي لوطورو ذلك. وهذا يدل على أن اليهود كانوا يسكنون بين المسلمين في المدينة القديمة. وقد بقيت منطقة واسعة في عمق المدينة القديمة تحمل أسماء دروب وأزقة يهودية حتى اليوم. مثل فندق اليهودي، عقيبة للالة ميمونة، البليدة، درب سلمة، درب جنيارة، درب النوالة، وهو مكان احتفال الإسرائيليين بعيد “سكوت” أو عيد “النوالة” في منتصف شهر أكتوبر من كل سنة، إحياء لذكرى خروجهم من مصر إلى صحراء سيناء ونجاتهم من فرعون. وإلى اليوم لا تزال ناحية من مدار فاس الجديد محاذية للملاح تعرف بـ “النواول” (جمع نوالة)، ودرب الجياف. كما أن هناك إلى اليوم قرب الملاح مكان يعرف بباب الجياف.
فحتى اليوم بقي سؤال تهجير اليهود إلى حيز فاس الجديد سؤالا غامض. فما الذي حدث ودفع السلطات المغربية إلى تهجير اليهود إلى مدينة فاس الجديد وقرب دار المخزن بشروط قلصت من حرية هؤلاء، التي كانوا يتمتعون بها في المدينة القديمة؟ من المعروف أن عددا من اليهود فضلوا اعتناق الإسلام على الخضوع لهذه الشروط القاسية… هكذا نجد حتى اليوم أسرا اعتنقت الإسلام وبقيت محتفظة بأسمائها العبرية القديمة مثل عائلة الكوهن وابن شقرون وغيرها كثير. فهذا يدل على أن فاس الجديد عرف في القرن السادس عشر مناطق إسلامية خالصة حول القصر السلطاني، وأخرى محض يهودية تحمل اسم الملاح، ثم أحياء عسكرية وتجارية ودولية في الوقت نفسه، يتعايش فيها دون مصادمات المسلمون والنصارى من الأسرى والأحرار، الذين كانوا في خدمة الدولة. بعد انتقال اليهود إلى الملاح، إلى جزئهم الخاص، يقدم لنا حسن الوزان صورة عن هذا الحي في إطار حديثه عن فاس الجديد فيقول: “ويشغل اليهود في أيامنا جزءا من المدينة كان يسكنه في الماضي حرس الرماحة. كانوا يسكنون في المدينة القديمة سابقا. ولكن كان المسلمون ينهبون ممتلكاتهم في كل مرة يموت فيها ملك، مما حدا بالملك أبي سعيد لأن يجليهم عن المدينة القديمة إلى المدينة الجديدة مع مضاعفة الجزية. وهناك يقيمون اليوم، وهم يشغلون شارعا طويلا جدا وعريضا للغاية حيث تقع فيه دكاكينهم وكنائسهم. وقد تزايد السكان اليهود تزايدا كبيرا حتى لم يعد من الممكن معرفة عددهم، وخصوصا بعد إجلاء اليهود عن الأندلس على يد ملوك إسبانيا. وهم محتقرون من كل الناس. ولا يحق لأي منهم أن ينتعل أحذية، فهم لا يلبسون سوى نعال من القش ويضعون فوق رؤوسهم عمامات سوداء. أما الذين يريدون أن يلبسوا قلنسوات فعليهم أن يخيطوا فوقها قطعة من قماش أحمر. وتبلغ جزية يهود فاس أربعمائة دينار شهريا لمصلحة الخزينة الملكية”.
الجالية اليهودية الفاسية
يقع الحي اليهودي بين الجدران الجنوبية الداخلية والخارجية للمدينة، وكانت هذه المنطقة عند تأسيس فاس الجديد يطلق عليها اسم حمص، حيث كانت تسكنها قوات السلطان الأجنبية من الرماة السوريين. وفي عام 1325 في عهد السلطان أبي سعيد، تم حل هذه القوات. غير أن اسم الملاح، الذي التصق باسم الحي اليهودي، يحيله أكثر من مؤرخ إما لوجود ماء مالح كان في تلك البقعة من فاس الجديد، أو لكون المنطقة كانت مستودعا للملح. لقد كان هذا الحي اليهودي في فاس هو أول حي يهودي في المغرب حمل اسم “الملاح”. اسم سيعمم على كل الأحياء اليهودية في المغرب، مع استثناءات قليلة مثل مدينة صفرو القريبة من فاس، حيث بقي اليهود والمسلمون يعيشون مختلطين في المدينة، ومدينة الصويرة لاحقا. “وهي المدينة الوحيدة في العالم، التي شكل فيها اليهود في فترة ما الغالبية السكانية”، كما يقول أندري أزولاي.
لقد احتضنت مدينة فاس أكبر وأقدم تجمع يهودي في المغرب، فقد نشأ هذا التجمع مع تأسيس المدينة الإدريسية في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي. ويؤكد هذا في ما بعد عملية شراء المرابطين لدور يملكها اليهود من أجل توسيع جامع القرويين. كما أن هناك مقولات تشير إلى أن دارا في الدرب، الذي هو الآن قبالة مدرسة أبي عنان المريني بالطالعة الكبيرة، كانت سابقا دار العالم اليهودي الكبير موسى بن ميمون، فيما أصبحت لاحقا تحمل اسم دار المكانة. كما أن المقبرة اليهودية الأولى كانت في المدينة القديمة خارج باب عجيسة.
لقد عاش اليهود في المغرب، كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم الإسلامي، تحت وضع أهل الذمة المحمي مقابل دفع ضريبة الجزية. غير أنهم قادرون على التنقل بحرية نسبيًا وممارسة المهن والحرف دون قيد، وتكوين العلاقات التجارية مع البلدان الأخرى، بل كانت هناك مهن مقتصرة عليهم ممنوعة عن غيرهم مثل صياغة الذهب والصيرفة. كما كانوا في الغالب سفراء تجاريين للسلاطين خارج المغرب.
لقد عرفت الحركة الثقافية اليهودية السفردية التي حدثت في القرنين العاشر والحادي عشر في المغرب والأندلس (إسبانيا والبرتغال تحت الحكم الإسلامي) ازدهارا في فاس وقرطبة، وأنتجت العديد من الشخصيات البارزة مثل دوناش بن لابرات (شاعر، حوالي 920-990)، يهودا بن دافيد هايوج (أو أبو زكريا يحيى النحوي، حوالي 945-1012)، والتلمودي العظيم إسحاق بن يعقوب الفاسي (1013-1103) وهؤلاء إما ولدوا في فاس أو قضوا وقتا هاما من حياتهم فيها. كما عاش ثاني أعظم علماء اليهودية بعد الفاسي موسى بن ميمون أيضًا في فاس من 1159 إلى 1165، بعد فراره من الأندلس ثم انتقل إلى مصر حيث عمل طبيبا عند صلاح الدين الأيوبي. مع بروز الدولة الموحدية، انتهى عصر الرخاء الفكري في المغرب والأندلس. فالموحدون، الذين كانوا في بدايتهم يتبعون الفكر الإصلاحي المتطرف للمهدي ابن تومرت، ألغوا وضع الذمي والجزية، وفرضوا تدابير قصرية لا على اليهود وحدهم، بل حتى على المسلمين والفقهاء المالكيين في مقدمتهم. فألغوا المذاهب السنية، وفرضوا اللغة الأمازيغية على الفقهاء في التدريس وفي المنابر. تم تخيير اليهود تحت حكمهم بين النفي أو اعتناق الدين الإسلامي وفقا لعقيدة ابن تومرت. فرغم إعلان بعض اليهود إسلامهم، إلا أنهم استمروا في ممارسة عقيدتهم اليهودية في الخفاء. مع أفول دولة الموحدين وصعود الدولة المرينية إلى سدة الحكم في القرن الثالث عشر، تحول المغرب إلى مناخ أكثر تسامحًا تمكن فيه المجتمع اليهودي من النمو والازدهار.
في عام 1276، أسس المرينيون مدينتهم الإدارية فاس الجديد، مدينة محصنة لإيواء قصرهم السلطاني والثكنات العسكرية، التي سينتقل إليها اليهود في وقت لاحق من العصر المريني. غير أن هذا التاريخ شهد ثورة ضد الدولة المرينية الجديدة تخللتها أحداث عنف ضد اليهود في المدينة القديمة. ربما كانت هذه الأحداث سببا وراء قرار أبي يوسف يعقوب تأسيس فاس الجديد ومنح اليهود حيا خاصا بهم من أجل حماية المجتمع العبراني في فاس.
بعد المجازر التي عرفتها مناطق عدة مثل إشبيلية وكاتالونيا سنة 1391 تحت الحكم الإسباني، فر عدد كبير من اليهود الإسبان إلى شمال إفريقيا واستقروا في مدن مثل فاس.
رحلة الملاح
كما سبقت الإشارة، فحتى الآن لم يتم من خلال المراجع المتاحة بين أيدينا تحديد الأسباب الدقيقة لتاريخ إنشاء الملاح في فاس أو أسباب ترحيل أو انتقال اليهود إلى الحي الجديد. فانطلاقا من الشهادات السابقة، سواء لمارمول أو للوزان أو لعمري، يكون من المحتمل أن الانتقال إلى الملاح كان اختياريا، وحدث عبر مراحل، خلال الحكم المريني وما بعده. وتشكل مجتمع الملاح اليهودي الخاص قد تطور تدريجيا وعبر مراحل. كذلك من المحتمل أن يكون هناك القليل من اليهود سكنوا الملاح مباشرة بعد تأسيس فاس الجديد. ثم انضم إليهم اليهود القادمون من المدينة القديمة ومن الأندلس لاحقًا. فمن الآراء التي ترجع سبب ترحيل اليهود من فاس القديم إلى فاس الجديد، اكتشاف جثمان مولاي إدريس الثاني في مسجد الشرفاء القديم وسط المدينة عام 1437. مما منح المدينة نتيجة هذا الاكتشاف مكانة “مدينة مقدسة”. فتحولت المنطقة المحيطة بالمسجد، الواقعة وسط الأحياء التجارية الرئيسية، إلى ملاذ يمنع دخول غير المسلمين إليه، مما أدى إلى طرد السكان اليهود والتجار من هناك. غير أن هذا الرأي بعيد كل البعد عن الواقع، فالحرم الإدريسي تشكل في القرن السادس عشر أو السابع عشر، أي بعد انتهاء الدولة المرينية والوطاسية. وإلى منتصف الستينات من القرن الماضي كان هناك دكان لأحد اليهود في مقدمة سوق العطارين لصناعة قرشال الصوفة. وفي مدخل سوق السباط من جهة العطارين كان أحد اليهود يجلس لصرف النقود مقابل عمولة. عموما فالترحيل أو الانتقال اليهودي النهائي إلى الملاح تم قرونا لاحقة بعد بناء فاس الجديد، وهو إلى حد الأن لغز مستعص فكه.
فكل ما يعرف هو أن علاقة ساكنة الملاح مع دار المخزن كانت في كل العصور جيدة. حتى إن الأرض التي تعرف اليوم بساحة العلويين، قرب بوابات القصر الملكي الرسمية، تبرعت بها للتجمع اليهودي أميرة مرينية تدعى لالة مينة، وذلك في القرن الخامس عشر. ومن المعروف أن أكثر الأحياء اليهودية في المغرب (الملاح) توجد دائما قرب القصر الملكي، حتى تضمن حمايتها.
لقد عرف القرن الخامس عشر فترة عدم استقرار سياسي، حيث كان التنافس على السلطة بين الوزراء الوطاسيين من أجل السيطرة الفعلية من السلالة المرينية وأيضا التنافس مع الفصائل المحلية الأخرى في فاس. في عام 1465، تعرض ملاح فاس لهجوم من قبل السكان المسلمين خلال ثورة قادها الشرفاء الأدارسة ضد السلطان المريني عبد الحق الثاني ووزيره اليهودي هارون بن بطاش، أسفر الهجوم عن مقتل الآلاف من السكان اليهود، واضطر العديد منهم إلى نبذ عقيدتهم علانية. استغرق المجتمع ما لا يقل عن عقد من الزمان للتعافي من هذه الواقعة، ونما مرة أخرى تحت حكم السلطان الوطاسي محمد الشيخ (1472-1505).
بين كنس وكنس كنس
فكما عرفت فاس القديمة كثرة الجوامع حتى قيل: “بين جامع وجامع يوجد جامع”، عرف الملاح أيضا الكثير من المعابد، التي كانت غالبيتها عبارة عن غرف سكن داخل البيوت الخاصة، تم تحويلها من قبل أصحابها إلى أماكن للعبادة وتم دعمها من خلال تبرعات الأعضاء. وحيث إن لليهود ثلاثة صلوات في اليوم: في الفجر والعصر والمساء، فقد كان الكنيس يوجد على بعد قليل من الساكنة. كانت هذه المعابد مثل المساجد تختلف من حيث حجمها وشكل عمارتها. منها البسيط الخالي من الزينة، ومنها المزدان بفسيفساء الزليج ونقوش الجبس والسقوف الخشبية المنمقة، الذي غالبا ما يكتسي زخرفة العمارة الإسلامية المغربية نفسها.
من بين المعابد اليهودية الأكثر شهرة في الملاح كنيس صلاة الفاسيين، الذي يشتهر بأنه أقدم كنيس للملاح وربما يرجع تاريخ إنشائه إلى العصر المريني، وبقي يستعمل حتى القرن العشرين. كنيس ابن دنان، الذي يعتقد أنه أسس في نهاية القرن السابع عشر، وقد تم ترميمه وفتحه سنة 1999 كمتحف عمومي. لقد عرف الملاح أكثر من خمسة عشر كنيسا، نشأت بسبب انفصال معابد اليهود السفارديم القادمين من الأندلس، المعروفين باسمMegorashim ، عن معابد اليهود المغاربة (العرب أو الأمازيغ)، المعروفين باسم توشافيم، إلى أن انتشرت بينهم تقاليد السفاردي (المنهاج) في معظم جوانب الممارسات الدينية اليهودية.
لقد تغير وجه الملاح اليوم كلية، واختفت الهيئات والأزياء التي كانت تميز اليهود عن سواهم. كما تحولت صورة بنايات كانت فضاء لثقافة وفرجة اليهود مثل سينما أبولو في ساحة التجارة إلى متاجر. وسكن دورهم وعمر دكاكينهم قوم آخرون من كل مناطق المغرب. ولم يعد ماضي حياة اليهود في الملاح غير حكاية تروى، يرددها الذين تعلموا على أيديهم أو تعاملوا معهم في الماضي. وانتشرت في محجه الذي يمثل القلب النابض للملاح، حركة تجارية ذات توجه إلكتروني حديث أو الملابس الجاهزة النسائية والرجالية، ولم يعد هناك أثر لمهن تخصص فيها اليهود وتفننوا مثل خياطة الصحون الفخارية، وتحميض الخضر والفواكه وصك العملة. الآن يعرف الملاح حركة ترميم بدأت في شارع بولخصيصات، على غرار ترميم وإصلاح ملاح مراكش. حيث أصبح ملاح فاس وجهة سياحية خاصة من اليهود الفاسيين أو الذين يهتمون بالشأن اليهودي في المغرب. فالحديث عن ملاح فاس، لا يمكن الإلمام به في هذه العجالة، بل يحتاج إلى حلقات ومزيد من البحث والتنقيب في جوانبه الاجتماعية والعمرانية، والجواب عن أسئلة عالقة لفهم دين وثقافة أقلية مغربية تأثرت بالعادات والتقاليد المغربية، واستفادت في تشريعاتها الدينية من الفقه المالكي، كما أثرت في جوانب من حياة المغاربة وثقافتهم، أقلية عاشت في المغرب قبل وصول العرب المسلمين إلى المغرب وعاشت بينهم لآلاف السنين.
المصدر: وكالات