قبل أيام قليلة كان العالم على موعد مع مشهد غير معتاد عندما تجمع قادة سبع دول إفريقية وقرروا مساعدة أوروبا في الخروج من أسوأ صراع تتعرض له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد زار قادة الدول الإفريقية بقيادة رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوسا، كييف وموسكو في محاولة لإطلاق مبادرة للسلام بين روسيا وأوكرانيا.
التقى القادة الأفارقة بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ثم بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وأعرب رامافوسا عن تفاؤله، لكن زيلينسكي وبوتين لم يتركا مجالاً للشك في أن فرص نجاح المبادرة الإفريقية لا تتجاوز فرصة بقاء كرة من الثلج يسقط عليها صاروخ كينزال روسي، بحسب الكاتب الألماني أندرياس كلوث، في التحليل الذي نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء.
والحقيقة أن رامافوسا هو واحد من قادة في الجنوب العالمي الذين أثاروا الدهشة في كل من كييف والغرب، فبلاده تقف بوضوح على الحياد في الصراع الروسي الأوكراني، بحسب الوصف الذي يصرّ عليه الرئيس الجنوب إفريقي، والذي يثير استياء زيلينسكي، والذي يرغب بطبيعة الحال في تسميته بالغزو الروسي والحرب العدوانية غير المبررة.
وامتنعت جنوب إفريقيا مرتين عن التصويت على قرارين من قرارات للأمم المتحدة تدين الهجوم الروسي في العام الماضي، وفي القرار الأول امتنعت 35 دولة عن التصويت، وفي الثاني امتنعت 58 دولة عن التصويت، وهذه الدول بشكل عام تمثل نحو نصف عدد سكان العالم.
وتواجه جنوب إفريقيا اتهامات بتزويد بوتين بالأسلحة سراً، لكنها تنفي هذه الاتهامات، في حين طالبت مجموعة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس الأميركي بمعاقبة بريتوريا من خلال نقل مؤتمر تجاري دولي ضخم ستستضيفه جنوب إفريقيا إلى دولة أخرى.
ويقول كلوث في تحليله إنه يجب توسيع نطاق هذه المعضلة التي يدرسها البيت الأبيض لطرح سؤال أكثر عمومية هو: هل يجب أن يتعامل الغرب مع الجنوب في هذه الصراعات الجيوسياسية الأوسع في عصرنا الحالي؟ فرغم كل شيء سيحتاج الغرب إلى بقية دول العالم ليس لمواجهة روسيا فقط وإنما الصين أيضاً.
يمكن أن تستخدم الدول الغربية قوتها الاقتصادية لإكراه دول الجنوب أو إقناعها بتبني مواقفها، ومعاقبة الدول التي ترفض ذلك، أو يمكنها استقطاب تلك الكتلة من العالم، وهو ما يعني ضرورة الاستماع لهواجس الجنوب ومعالجتها، بعد أن فقدت سياسة العصا والجزرة فاعليتها مع تلك الدول.
ويمكن القول إن أحد تفسيرات تمسك دول الجنوب بالحياد في الصراع الدائر بين أوكرانيا وروسيا، وكذلك في الخلاف بين الولايات المتحدة والصين هو الواقعية القديمة، فمع تعدد الأقطاب في العالم لم يعد واضحاً تماماً لمن ستكون الغلبة في المستقبل، لذلك فأفضل استراتيجية بالنسبة للكثير من الدول هو توخي الحذر والوقوف على الحياد.
على سبيل المثال، يتبنى رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي سياسة خارجية مثلثة الأبعاد تتيح له التعامل مع موسكو وواشنطن وبكين، كما لو كان قد درس على يد السياسي الأميركي الشهير هنري كيسنجر، عراب الواقعية الأميركية، لكن هذه العقلية الحذرة تعني أيضاً أن دول الجنوب منفتحة على الاقتناع.
لكن العقبة الأكبر تتمثل في السخرية السائدة في عالم الجنوب من ادعاءات الغرب عن الدفاع عن «النظام العالمي القائم على القواعد» في معركة أوكرانيا، فالكثير من دول الجنوب لم تكن موجودة أثناء وضع قواعد النظام العالمي الذي يتحدث عنه الغرب، والأمم المتحدة ومجلس الأمن تأسسا بدرجة كبيرة على يد الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، عندما كانت تلك الدول تحتل وتقمع غالبية دول آسيا وإفريقيا، لذلك فالدول الكبرى تستغل المنظمات الدولية بما في ذلك مجلس الأمن وفقاً لمصالحها ومواقفها، فإذا لم تكن الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين أو روسيا موافقة على أي قرار لمجلس الأمن، فإنها تستطيع بمفردها منع صدوره باستخدام حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول الخمس دون بقية دول العالم.
ويقول الباحث الجنوب إفريقي تيم موريتي، إن النظام الدولي الحالي هو نظام منافق ومزيف، فالقوى الغربية مازالت قادرة على شن الحرب أينما تريد ووقتما تشاء، كما حدث في حرب العراق وأفغانستان وليبيا. هذه القوى لا تهتم عادة بعواقب تلك الحروب التي تشنها مادامت تؤثر فقط في عالم الجنوب، وعلى سبيل المثال، أطلقت الحروب الثلاث التي شنها الغرب ضد العراق وأفغانستان وليبيا موجة من التطرف والإرهاب، تعاني منها اليوم مجموعة كبيرة من الدول الإفريقية، بدءاً من تشاد ومالي والنيجر وحتى موزمبيق والصومال وتنزانيا.
ويقول كلوث إن قائمة وقائع النفاق الغربي طويلة بالطبع، فلماذا يجب على شعوب الجنوب تأييد النظام القائم على القواعد في حين ترفض الولايات المتحدة التصديق على معاهدة الأمم المتحدة للبحار؟ ولماذا يجب تنفيذ مذكرة اعتقال الرئيس بوتين التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية إذا كانت واشنطن لا تعترف بالمحكمة؟
ويرى كلوث أن المشكلة تكمن في فقدان قادة الغرب للمصداقية، وكما قال وزير خارجية الهند سوبرامانيام جايشانكار في عبارة انتشرت على نطاق واسع وهي أن «الغرب يلتزم بعقلية ترى أن مشكلات أوروبا هي مشكلات للعالم، ولكن مشكلات العالم ليست مشكلات لأوروبا»، لذلك على الغرب أن يقدم للجنوب صفقة جديدة حتى لا يخسره، وأول جزء من هذه الصفقة هو إصلاح الأمم المتحدة، بما في ذلك تخلي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن عن حق «الفيتو»، كما أنه من الصعب إقناع الجنوب باستمرار دولتين أوروبيتين متوسطتي الحجم هما فرنسا وبريطانيا في التمتع بمقعدين دائمين في المجلس، في حين أن هناك دولاً عملاقة من حيث عدد السكان مثل الهند وإندونيسيا لا تتمتع بذلك.
والعنصر الآخر في الصفقة المطلوبة يتمثل في ضرورة إصلاح بنوك التنمية ومؤسسات التمويل الدولية لكي تعطى الدول الفقيرة في عالم الجنوب نصيباً أكبر من المساعدات وبطرق تضمن استفادة شعوب تلك الدول من هذه الأموال. ويرتبط العنصر الأشد وضوحاً في أي اتفاق عالمي جديد بالتغير المناخي، ففي حين أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة مسؤول عن الجزء الأكبر من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري والتغير المناخي، تتحمل دول الجنوب الفقيرة النصيب الأكبر من عواقب هذه الظاهرة، بدءاً من موجات الجفاف والمجاعات وحتى الفيضانات المدمرة والهجرة، لذلك على دول الغرب الغنية التعامل بجدية مع قضية تمويل جهود تكيف دول الجنوب مع التغير المناخي، وعلى دول الغرب أيضاً تحويل اقتصاداتها إلى الاقتصاد الأخضر الأقل تلويثاً للبيئة مهما كانت الكلفة الاقتصادية أو السياسية، وفي الوقت نفسه توفير المعرفة التكنولوجية لدول الجنوب بشكل متزامن، كما ينبغي على الغرب أن يتوقف عن إلقاء الدروس على دول الجنوب وأن يبدأ في الإنصات لها.
• الدول الكبرى تستغل المنظمات الدولية، بما في ذلك مجلس الأمن، وفقاً لمصالحها ومواقفها، فإذا لم تكن الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين أو روسيا موافقة على أي قرار لمجلس الأمن، فإنها تستطيع بمفردها منع صدوره باستخدام حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول الخمس دون بقية دول العالم.
• من الصعب إقناع الجنوب باستمرار دولتين أوروبيتين متوسطتي الحجم هما فرنسا وبريطانيا في التمتع بمقعدين دائمين في المجلس، في حين أن هناك دولاً عملاقة من حيث عدد السكان مثل الهند وإندونيسيا لا تتمتع بذلك.