مرة أخرى، تأخذ الرئيس الجزائري السيد تبون، الحماسة إلى مَلْئِ المُجاملات الديبلوماسية “بثقافته” التاريخية، فيَرْتَبك، ويرتكب فَرْفَشاته المُعْتادة… ويضع نفْسه في موْقع السُّخرية من قِلّة زاده “الثقافي”… كما حدث له خلال زيارته، الأيام الأخيرة، إلى موسكو… وما حدث له، يذَكِّر بما سبق ووقع فيه، يوم 12 أكتوبر 2021، حول صلةٍ للأمير عبد القادر الجزائري مع الرئيس الأمريكي جورج واشنطن، في مُحاولات “تأصيل” علاقات الجزائر مع الولايات المتحدة… حيث تحدث عن المُسَدّسين، المُذهّبين، هدية الرئيس الأمريكي للأمير الجزائري… والحال أن الأمير عبد القادر ولد سنة 1808، تسع سنوات بعد وفاة جورج واشنطن… قال ذلك في ندوة صحفية…
هذه المرة في موسكو، حاول، أيضا، “تأصيل” علاقات الجزائر مع روسيا، وفي سياق شكر الرئيس بوتين على تخصيص نَصْبٍ تذكاري للأمير عبد القادر في إحدى ساحات موسكو، أضاف السيد تبّون “بأن القيصر نيكولاي الثاني أهدى للأمير عبد القادر وسام النسر الأبيض، والرئيس بوتين أهداه ساحة في موسكو…”، وفي ذلك تخيُّل لواقعة لم تحدث، وأيضا زلّة ديبلوماسية… الأمير الجزائري توفي 1883، بينما القيصر الروسي نيكولاي الثاني لم يتوج قيصرا إلا سنة 1896، وأصلا كان الأمير عبد القادر قد توقف عن ممارسة الإمارة سنة 1847… وخرج من دائرة الفعل السياسي والجهادي، ليستقر بعدها في دمشق، أين توفي… العلاقة بين الأمير وبين القيصر من خيال السيد تبون ومن فرفشاته… هنا اللخبطة في “الثقافة” التاريخية للسيد تبون… أما الزلّة الديبلوماسية فهي جمعُه الرئيس بوتين ونيكولاي الثاني في مكانة واحدة من تكريم الأمير عبد القادر… وهو ما لن يستسيغه الرئيس بوتين… لأن نيكولاي الثاني، كان آخر قياصرة آل رومانوف، وضده قامت ثورة أكتوبر 1917، اعتقله البلاشفة، وأعدموه سنة 1918… الخِفّة السياسية أوقعت السيد تبون في مهزلة وفي مَثْلَبة… ومع الرئيس الروسي الذي جاء “يخطب” وِدّه…
ولن يقف قادة الكرملين مُطوّلا عند تلك السَّقطات… يهُمُّهم العائد الديبلوماسي، السياسي والاقتصادي من زيارة السيد تبون لموسكو… وقد شدد الضيف الجزائري على اتفاقه التام وارتياحه العميق لتطابق وجهات نظر الطرفين في جميع قضايا ونقاط محادثاتهما… وردّد السيد تبون، مرتين، أنه يوافق السيد بوتين على كل ما قاله، مباشرة، وأمام الضيوف وعدسات المصورين… من الصّعب الفصل في كلام السيد تبون ما بين السياسة والفرفشة… لأن ما يراه اتّفاقا تامًّا مع الرئيس بوتين، في حقيقته تغيّر تام في سياسات قادة الجزائر بخصوص القضايا موضوع “تطابق وجهات النظر”… وهي سياسات متصلة بتمَوْقُع الجزائر أو بطموحات قادتها في أوضاع وتجاذُبات منطقة شمال إفريقيا وحوض الأبيض المتوسط… ومرتبطة بالحساسية المفرطة للقيادة الجزائرية إزاء المغرب، وما تفرضه عليها من مراعاة لقوى دولية وإقليمية وحتى مناشدَتها ودّها، وهي قوى في أغلبها مع الولايات المتحدة مصطفة ضد روسيا، وبشراسة… ويهم قيادة الجزائر أن “تفشل” تفاهماتها مع المغرب…
في أوضاع الساحل والصحراء، لم يتردد السيد تبون في التسليم بالنفوذ الروسي، في المنطقة، وخاصة في مالي… وهي الدولة التي كانت تعتبرها الجزائر “حديقتها” الخلفية وتتعاون في “إدارتها” مع فرنسا… السيد تبون التمس من الرئيس الروسي التوسُّط له مع السلطة الحاكمة في مالي للرُّجوع إلى “اتفاق الجزائر” حلاّ لأزمة المنطقة… وهو الاتفاق المُتقادم، في منطقة برز فيه فاعلون جُدُد، وَضَمر فيها “النُّفوذ” الجزائري… لكأن السيد تبون يقول: “أعطوني اتفاق الجزائر، وخذوا مالي… لُزومَ مَغْنَم معنوي، تعويضا عن “العودة من الزّفّة بلا حمُّص”… إنّه هُبوط في المُكابرة الجزائرية ومُوافقة على النفوذ الروسي فيها، وهو ما يُغْضِب فرنسا… فرنسا التي يتمنى السيد تبون زيارتها، بينما السيد ماكرون يتمَانع…
في الأزمة الليبية، نوّه السيد تبون بتطابُق الرؤى بين الجزائر وروسيا بخصوصها… لا يمكن التأكّد من “صدق” هذا التطابق… ولا من نسبة التحول لدى الطرفين من موقفهما السابق… الروس كانوا مَيَّالين لطرف طُبرق وبَنغازي، والجزائر كانت مُساندة لطرف طرابلس… والأرجح أن الموقف الجزائري هو الذي تحوَّل… في سياق هذه المُسايرة الجزائرية لموسكو… والواضح أن السيد تبون لم يَرَ ضرورة الإفصاح عن السياسة المعتادة للجزائر إزاء ليبيا، ولم يُلح عليها… رُبّما أنها لم تعُد تُقْنِعه، ورُبّما مُجاملةً لمضيفه… وربما أن الفُرقاء الليبيين أشَاحوا وُجُوههم عن الجزائر، ويَمّموا صعيد المغرب، حيث الصِّدق والحكمة والناتج المفيد لليبيا…
السيد تبون وافق السيد بوتين في كل ما أوضح له، وبدا مُنْشرحا بالاتفاقات السياسة، حتى حوْل “تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”… معنى ذلك أن الرئيس الجزائري لم يعْترض على المَلاَمَة الروسية للفلسطينيين، و تفهّم التعاطُف الروسي مع إسرائيل، و اقْتَنع بحيثيات فَتْح قنصلية روسية في القدس… لا يحق لأحد أن يعْترض على التصرف السيادي الجزائري… في الانْعِطاف بعيدا عن المُعلَن من شعارات الحكم الجزائري إزاء المُعاناة الفلسطينية… ولكن يمكن تمنّي التزام قيادتها بسلوك مغاير لمُزايدتها في القضية الفلسطينية، على الفلسطينيين…وهي التي أمْطَرتْهُم هُتافات ونواهي …لم “تُطعِمهم” من جوع ولم تخفِّف عنهم حَيْف الاحتلال..
ولم يقل السيد تبون أنه يوافق روسيا في عملياتها العسكرية في أوكرانيا، ولكنه “موافق على كل ما طرحه الروس عليه… وشكر السيد تبون على قبوله وساطة الجزائر في النّزاع بين روسيا وأوكرانيا… وهي الوساطة التي سبَقه إليها قادة أفارقة، الجمعة 16 يونيو، وضمنهم رئيس جنوب إفريقيا والسينغال، وقد حلوا بكييف لمُلاقاة فلودومير زيلنسكي… ما يعني أن الوساطة الجزائرية مسبوقة إفريقيا… وقبل أن تبدأ، فقدت جدْوَاها، ومعناها، و مُبرِّرها… وهي لا تعدو أن تكون مُجرد يافِطَةَ تمويه ديبلوماسي… وتُعبِّر عن ارتباك سياسي لدى قيادة الجزائر، فهي مدعوة للاصطفاف مع موسكو… وتشرَئِبّ إلى واشنطن… تخشى أن يعمق ذلك نفور الغرب منها… خاصة وأزمتُها مع فرنسا تتجه نحو مُنحدر حاد… ودول أوروبية عِدّة، تتجاهلُها، و توثِّق صِلاتها مع المغرب و تتبنّى جدّية مسْعاه السِّلمي لحلّ نزاع الصحراء المغربية… وبِجدّية… وتعمِّق تفاعلاتها الاقتصادية والسياسية معه… وهذا يُزعج ويُغضب ويُربك قيادة الجزائر.
الجزائر حائرة… في قضية القضايا لدى قيادتها، وهي قضية الصحراء المغربية، من خلالها تسعى إلى عزل المغرب ديبلوماسيا، باسْتِمالة روسيا، لعلّها تُفيدها في مجلس الأمن، ولكن بما لا يُزعج الغرب، فيُعمِّق عُزلَتها هي… وكان لافتا أن السيد تبون هو من تحدّث عن التباحث بينه وبين السيد بوتين في موضوع “الصحراء الغربية”… بينما تجاهل السيد بوتين الموضوع… وهي رسالة إلى السيد تبون بأن الكرملين يرفُض أن يُساير الجزائر في “شَهواتها”، ويرفُض أن يحشُرَ في علاقاته معها، نزاعا لها مع المغرب… وأن له مع المغرب علاقات مبْنِية على الصداقة، الاحترام والتعاون، عريقةٌ، وقد عبرت حرارة وضغوط الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي… وهي مُتواصلة ومُتوازنة ومَفتوحة… وتَسمح له بفتح كل الملفات مع المغرب مباشرة، و بدون وكيل، خاصة و الوكيل مُجَرّح بما يكيله للمغرب من عداء مُعلن ومُسجل في المحافل الدولية… حقيبة العَداء للمغرب التي جَرَّها السيد تبون معه إلى موسكو، لم يتمكّن من فتحها، وعاد بها وقد فَشت نَتانَتها…لأنَّها مجرد “سقط متاع”…
الموقف الروسي في مجلس الأمن واضح في إسناده للتوجُّه الأممي، وعدم اعْتراضه على قرارات مجلس الأمن، مباركا الدعوة إلى حل سِلمي، دائم ومُتوافق عليه للنِّزاع… ولا يُقحم الموقف من نزاع الصحراء في سياقات الصراع الروسي الغربي. يُؤَطِّر الموقف في مقولات وانْسِيَابِية العلاقات المغربية الروسية، المبنية على تبادل المنافع والاحترام المتبادل… وهو ما يتحقَّق اليوم بالتبادل التجاري الذي يتصاعد نوعا وحجما، وبالحوار السياسي الذي لم يتوقف أبدأ… القيادة الروسية لم تعترف فقط بالحركة الانفصالية في الصحراء المغربية… وهي أصلا حاربت الانفصال في الكيان الروسي… وأيْضا هي تراعي حاجتها للمغرب، في إفريقيا وفي حوض المتوسط وفي العالم العربي. المغرب الذي كشف عن مُمكنات اقتصادية هامة، وعن استقرار سياسي متين… وعن ثَبَات ووُضوح في اختياراته الإستراتيجية، وعن استقلالية إيجابية في تدبير، تنوُّع وتَعَدُّد أطراف علاقاته الخارجية. المغرب الذي تَعِد معطيات تطوُّر روافع بُناه التحتية عن تمَوقُع رائدٍ في مُستقبل الصناعة العالمية… المُستقبل الذي يُؤْرق العالم باحتمالات مُفاجآته وتحولاته… تحديات مستقبل الصناعة التي هي جزء من عوامل بعض حروب اليوم، الجارية والمحتملة، التي ستؤثر، غدا، على تجديد مكوِّنات النظام العالمي الجديد… والمغرب لديه مؤهلات، وهو بصدد إنضاج أخرى، للانخراط فيه…
القيادة الجزائرية مشلولة القدرات، بِعدم سعيها للتخلُّص من رواسب مناخات نشأتها، وقد أدمنت فيها على استنشاق “غازات” رياح الحرب الباردة… وثقافة تلك المرحلة تكلست فيها… نعم لديها المال الوفير، ولو أن حصصا منه تُصبّ في منافع القيادة وحدها… ومع ذلك، فما يتبقى منه، قد يساعد الجزائر على مواكبة تطورات العالم… ينقصها، فقط، أن تقودها دولة وليس عصابة، وأن تتوقف عن الترنُّح وهي تتحرك في علاقاتها الخارجية… وأن يكُفّ رئيسُها عن اعْتبار السياسة مجرد تسلية… (عن جريدة “العرب” في لندن).
المصدر: وكالات