منذ الصفحات الأولى، نكتشف أننا أمام رواية متماسكة فيها الكثير من الجمالية الفنية واللغوية، ومن حيث السرد والمتن الروائي، والتكنيك الفني، وجمالية اللغة والأحزان الشفيفة والخصبة، أحزاناً ليست عقيمة ولا ساذجة، نتلمس أيضا تلك الاشتغالات الحديثة على السرد، وعلى شخصيات الرواية.
إذا كان العنوان في أي عمل إبداعي يشكل عتبة دالة للولوج إلى النص، أو على الأقل يقدم للقارئ مفاتيح أو إيحاءات تفضي إلى بعض مكنونات النص، إلا أننا، هنا ومع قنطرة، سنجد وفي الصفحة 7، ثمة توضيح من الروائي أحمد السماري يقول فيه: «اخترت اسم قنطرة لأنه يعبر عن تلك المرحلة» يقصد مرحلة الزمكان الروائي، الذي سنكتشفه من خلال قراءتنا لهذا النص الروائي الجميل. لكننا، وعلى لوحة غلاف الرواية، سنكون وجهاً لوجه مع آلة العود وثمة قضبان وقفل موصد يوحي بشكل زنزانة، هي إيحاءات تحمل دلالات ورموزاً لبعض مناخات وطقوس الرواية.
على امتداد 182 صفحة من القطع الوسط سنكون مع الفصول الأربعة التي جعل منها السماري فصولاً لروايته، الفصل الأول حمل عنوان البدايات، الفصل الثاني حمل عنوان حي الطرادية، الثالث عنوان من المتن إلى الهامش، الرابع زمان الصمت.
في هذه الأزمنة يستخدم الروائي أحمد السماري عدة ضمائر، ضمن روايته قنطرة، لعّل أهمها ضمير المتكلم، هذا الضمير الأكثر حضوراً في الرواية ضمن السرد الروائي، وهذا الضمير يوهم بانسجام وتماهي صوت الروائي في الواقع، مع الحدث الروائي، كذلك الإيهام بالتجربة الواقعية لمؤلف العمل، وواقعية شخصياته الروائية.
يقول: «عشت طفولة قاسية جداً، مات أبي وأنا صغير حتى أنني لم أتذكر ملامح وجهه، ولم يورث لنا من حطام الدنيا سوى بيت طين صغير في قرية نائية» ص11.
هنا نحن في الحدث الدرامي الروائي لسنا أمام شخصية المؤلف، بل نحن أمام شخصية روائية، شخصية الطفل الذي يكبر ويصبح شاباً، ويتعلم العزف على آلة العود بفضل شخصية (حمد).. ويصبح اسمه الشخصي والفني معروفاً: (وحيد)، حين يهجر القرية ويسكن في العاصمة الرياض، ويتعرف على الشاعر سعد الذي يكتب له أجمل القصائد.
ثم يتتالى السرد الروائي عبر ضمير المتكلم، على ألسنة باقي شخصيات الرواية، التي تؤسس لبناء المعمار البنيوي للبنية الروائية.
لنأخذ وعلى سبيل المثال ما يلي: «ألعب كرة القدم، اسمي عبدالله مبارك ولقبي الرياضي (عبادي) أسكن في حي الطرادية منذ أن جئت إلى هنا طفلاً مع والدي قادمين من قريتنا» ص42.
شخصية عبدالله تنمو وتتطور وتتفاعل مع أحداث السرد الروائي، عبدالله الذي ينال الشهرة من الصحافة والجمهور، لكنه يخسر حبيبته سارة التي تتزوج أثناء سفره مع فريقه إلى خارج البلاد.
ومع تكامل البعد النفسي والزمني لنمو الشخصيات، سنجد أن شخصية سارة هي معادل روائي لتبرير أحزان عبدالله لفقده لها، عبدالله؛ الذي ومع مرور الزمن، يخفت بريق شهرته، ويخيم الحزن على مستقبل حياته.
على حين أن شخصية الفنان (وحيد) هي التي تكون الأكثر حضوراً في بنية هذا النص الروائي اللافت والجميل، لما فيه من تشظيات وانكسارات وبوح وكلمات أغان من تراث المملكة، وتأريخ لجغرافية الأمكنة من أحياء العاصمة الرياض، مروراً ببعض المحافظات السعودية، وكذلك عواصم عربية مثل الكويت والدوحة وغيرهما، عبر أزمنة تشهد على ميثولوجيا الحياة. عبر أزمنة الرواية وعبر ذاك البوح الشفيف لجغرافية الأمكنة وجغرافيا الروح والحياة الإنسانية، التي صاغها السماري أحمد، بمغزال النول المنفرد، الذي نسجه من تجربته الحياتية ومن قراءاته ومن الأخيولي، ومن عباءة الأيام والسنين بمغزاله، الذي عرف كيف يدوّزن فيه أوتار السرد الروائي، كما يدوزن (وحيد) بطل روايته أوتار عوده المنسوجة من حكايات الزمن البهي والحزين أحياناً.
وكما يحدث لشخصية سارة وعبدالله، ولوحيد الذي نذر عمره لرسالته الفنية ومشروع حياته، ولباقي مصائر شخصيات الرواية، التي تكون نهايتها كما تريد الحياة وكما تشاء الأقدار، وذلك لأن الروائي يستمد نماذج روايته من شخصيات هي ابنة البيئة وابنة الحياة، لأنه لا يستورد شخصيات من المريخ. وهنا أستطيع القول إن الروائي أحمد السماري نجح كثيراً في كشفه عن جماليات روايته، وانسجمنا كقراء مع شخصيات روايته، عبر إضافته جمالاً يضاف لجمالية ضمير المتكلم، الذي هو من أمتع الضمائر التي تستخدم في الفضاء الروائي الحديث.
وأرى أنه وجد لذاته خطاً روائياً خاصاً به وصوتاً روائياً لا يشبه سواه، وبصمة روائية سيكون لها الكثير من الصدى مع قادمات الأيام، تأكد لي ذلك منذ روايته الأولى (الصريم).
عبر كل هذا البهاء الروائي الممتد والمشرف على عوالم فيها الكثير من الغوص والتأمل، يقف الروائي أحمد السماري، في روايته الأحدث (قنطرة) عند نقطة ارتكاز مهمة هي التكثيف والاختزال والانزياح اللغوي؛ بغية تجنب مسروده الروائي الترهل والتشظي، وعدم الوقوع في السرد الساذج والعادي، ليقدم لنا رواية طازجة وعذبة ومشذبة وغير مترهلة وغير مملة، عبر لغة رشيقة ممتعة وشيقة وقريبة إلى شعرية البوح وتوظيف الكلمة، لصالح الجملة المنسابة من أرواح شخصيات تضمر أكثر مما تعلن: «أدركت بعد مرور العمر، أنني لست بحاجة لمن يبادلني كلمات المحبة، والنظرات الخجولة الخاطفة، والأغاني العاطفية والقصائد الغزلية، أنا بحاجة لمن أستطيع أن أشاركه الحياة برغبة متجددة وقدرة على التحمل والتسامح» ص68.
رواية قنطرة ذات الفصول الأربعة، التي تحدثنا أيضاً عن أربع شخصيات محورية، تحكي لنا عن الحب والفن والرياضة وعذابات الزنازين.
هذه المحاور التي تشكل فضاءات هذه الرواية، حيث تنسل منها وتتوالد العديد من الشخصيات التي تساهم في إغناء المشهد الروائي. هنا فضاءات هذه الرواية حيث تنسل منها وتتوالد العديد من الشخصيات، التي تنتمي لشخصيات القاع التي تحكي عن فترة تاريخية مرت بها المملكة العربية السعودية، والعاصمة الرياض التي اتخذ منها الروائي فضاءات سردية لمسروده الروائي هذا، الرياض ومما طرأ عليها من تحولات، بدءاً من المكان البيت القديم إلى باقي تطورات إيقاع الحياة من تحولات اجتماعية واقتصادية وعمرانية، حتى الغناء والرياضة والعلاقات الاجتماعية تبدلت.
وعبر زمن المتن الحكائي الزمن الروائي نجده يمتد شاقوليا، نستنشق من انسيابه رائحة البيئة لنمضي مع السماري صفحات تألق في إبداعها، ضمن رؤية فنية جديدة وإحساس جمالي متماهٍ مع لغة جميلة رشيقة وممتعة، جددت وحدّثت في البناء السردي لهذه الرواية، مثلما نجحت التجديد في عالم الروايات التي تنتمي إلى البيئة وبكثير من النجاح.
وبالتالي لا يمكننا الوقوف بعجالة عند هذه الرواية الناجحة، ولا يمكننا الوقوف عند عتبة واحدة من القراءة، وإنما تتعدد عتبات القراءة حتى يمكننا الوقوف على الجزئيات الكلية التي شكلت هذه الرواية.
وعلى الرغم من أن الصفحات الأخيرة من الرواية اكتظت بالموت وأسرة الزنازين وبالأحزان، إلا أن الروائي أحمد السماري يطلق لبطل روايته وحيد مطلق الحرية، فهو وبعد خروجه من السجن يضعه سائق سيارة السجن أمام باب حديقة (الغوطة)، وكان سؤاله الأول عن صديقه الشاعر سعد، والسائق يوهمه بأن صديقه الشاعر سعد ينتظره في الحديقة، ويدخل وحيد الحديقة وحيداً، وحين يجد له مقعداً فارغاً في الحديقة: وضع الحقيبة على الطرف، ثم رفع رجليه على المقعد، وتسطح عليه، متخذاً من الحقيبة مخدة، فيما الشمس تتجه للمغيب. ص182.
هكذا تنتهي الرواية.. وعلى نهاية مفتوحة: (فيما الشمس تتجه للمغيب) هي الجملة الأخيرة في الرواية. وهنا تحضرني مقولة لباختين يقول فيها: «إن الكلمة في الرواية تقيم حواراً مع نصوص أخرى».