“لا تعش بشروط أبدا، وعش بسلام دائما. لا تتكلف… ولا تتصنع، ولا تُفسد طينتك الأصل هباء. كن محبا للناس، فاعلا مواظبا للخير، وكن من أهل الله، ولن ينساك المولى عز وجل. هذه الدنيا فانية، والله يبقى، ولا نبتغي سوى وجه ربنا”.
كانت هذه من وصايا با العربي (68 سنة) لنا. دخلنا عليه دكانه المتاخم لواد الشرفاء والكائن بقصر الملاح، بمدينة الريصاني (مولاي علي الشريف) بإقليم الراشيدية. وجدنا الدكان المطلي بالأزرق كعادته اليومية “يأوي” مجالس الشيوخ من الرجال، الذين لا يعثرون على بصيصٍ من حياة إلا، هنا، بجانب با العربي.
سلمنا عليه، وعلى الذين معه. وجدنا بعضهم يحمل مسبحة، وبا العربي يحمل مصحفا. يبتسم با العربي بخجل وعيناه مشدودتان صوب الأرض. لربما… لم يتخيل قط أنه سيكون يوما موضوعا صحافيا ينشر بهسبريس..
لكن… في قصة الرجل مشاهد تستحق أن تروى، فهو غسال أموات المدينة وحلاق الدراويش، المتصوف العارف بالله، الذي لم تُغره تقلبات الناس من حوله وهم يعتنقون المعاصرة. ظل دكانه محافظا على نفَسه التقليدي، حتى دراجته الهوائية لم يغيرها منذ سنين طويلة.
حلاقُ الرعيل الأول
صرخَ با العربي لأول مرة بمدينة الريصاني سنة 1955 بقصر يحياتن. بمجيئه ستزغرد الفيلاليات احتفاء بمجيء طفل سيصبحُ رمزا من رموز الهامش، على الأقل عند ساكنة المدينة. عاصر الملوك الثلاثة. نشأ في عائلة متواضعة؛ لكنه حين بلغ من العمر 14 سيحصل على “الشهادة”، التي كانت حينها تتويجا للمسار الدراسي في ستينيات القرن الماضي.
حين بدأ با العربي الحديث إلينا، ظل يردد بصوت خفيت: “ماقصدتوش بابنا، قصدتو باب الله”. لا يخلو حديثُ با العربي من اسم الله وصفاته… كيف لا؟ وهو من كبار متصوفي مدينة الريصاني. لا يحتاج الأمر إلى كثيرِ تقديم: هو حلاق الفقراء وكبار السن والبسطاء ودراويش الريصاني… هو بخلاصة “ولد باب الله”، كما يحلو له تسمية نفسه.
تسيحُ عينانا داخل “الصالون”، فنبصر وسائل حلاقةٍ متواضعة. منها ما يتجاوز عقدا من الزمن. كرسي قديم يحيلُ على أن أجيالا مرت من هنا. كراس من خشب وحديد في الجانب للمنتظرين دورهم في الحلاقة… المحل كله مؤثث بأغراض وأشياء بسيطة؛ حتى إبريق الشاي القديم يصر على أن يقدم شهادة على كرم صاحب المحل وعند المدخل عبوة ماء من فخار، يصطلح عليها محليا بـ”الخابية”، ليرتوي منها العابرون في الطريق.
با العربي رجل بمعادلات كبيرة داخل أفق الفيلاليين، يتأكد هذا حين يحكي لنا بداياته في الحلاقة التي تتجاوز ربع قرن من الممارسة: “تعلمتُ أبجديات الحلاقة شيئا فشيئا. صرت ممسكا بزمامها، فقررتُ أن أصير حلاقا. كانت البداية في حي القصبة، غير بعيد عن “بيرو عرب”، وفي سنة 1997، جئت إلى هذا المحل. وبقيتُ هنا”.
فهل يستطيع أحدٌ أن يحصي عدد الرؤوس التي حلقها با العربي؟ لا يهم الإحصاء في هذا السياق كثيرا، بما أنه من الواضح أنه يناهز الألف وأكثر؛ لكن النقطة المهمة أن با العربي، حتى زمن الناس هذا، لا يحدد ثمنا للحلاقة. هناك من كان يعطي درهما واحدا، وهناك من حلق رأسه “ببلاش” أو دفعَ بالدعاء. هناك الفقير والغني والسخي والبخيل والكريم. كلهم مروا هنا، ومنهم من لا يزال وفيا لهذا الكرسي.
لن نذهب بعيدا حتى يتأكد ذلك، فها هو رجل سبعيني يلج المحل يطلب من با العربي أن يحلق لحيته. هذا الرجل، الذي يجلس على الكرسي أمامنا عند با العربي، أكد لنا أنه يعرف هذا “الحجام” منذ ما يزيدُ عن الـ50 سنة… قال: “أعرفهُ منذ كان يغني يا ليل يا عين. هذا الحلاق هو قدري وهو من أعرف. لا يمكنني تغييره، ولا أطمئن أن أهب رأسي لغيره لحلاقته. منذ عقود وأنا آتي، وهذا مكاني حتى النهاية من عمري”.
سيلتحق بنا الصحافي وابن المدينة علي بنهرار، فأكد بدوره أن هذا الدكان يحملُ قطعا متفرقة من ذاكرته. قال بنهرار: “كان والدي السمسار صديق با العربي. وكان يأتي إلى هذا الدكان بين الفينة والأخرى. وحين كنت طفلا، كنتُ آتي إلى هذا المحل لحلاقة رأسي في بعض الأحيان”.
ربط بنهرار الأواصر بين الذاكرة والوجدان، ثم أفاد: “لا يزال هذا الدكان محافظا على روحانيته، وبنفس مكنوناته الرمزية، وبنفس صخبه القديم؛ لأنني لا أتذكر أنني جئتُ يوما ووجدت المكان خاليا. كان هذا الفضاء دائما جامعا للفيف من الناس. قبل أزيد من عقد ونصف العقد، كنتُ آتي بمعية أختي التي تكبرني. كانت ترافقني كوصية علي، وتتكلف بمبلغ الحلاقة وتحافظ عليه. في نهاية الحلاقة كانت تقدم له درهمين أو ثلاثة، ويقول با العربي كعادته: “الله يخلف””.
“الميتُ” بين يدي با العربي
ليست الحلاقة هي حرفة با العربي الوحيدة، فهو من أشهر غسالي الأموات بمدينة الريصاني. وحدها هيبة الموتى تفصح أن الرجل من طينة مغايرة، فتغسيل ميت لا تربطه به علاقة قرابة هو مهمة لا يمكنُ لأي كان أن يؤديها على الوجه الأكمل؛ لكن هذه المهمة المستحيلة” عند الكثيرين منا هي شيء أصبح طريفا وعاديا عند با العربي بحكم سنوات طويلة من الممارسة.
دخل الرجل غمار تغسيل الأموات منذ أكثر من 10 سنوات، بعد أن كان يرافق الحاج المختار الذي كانت حرفته تغسيل الأموات في الماضي. تعلم هذه الحرفة التي يعتبرها نبيلة، وكذلك هي عند العوام بهذه المدينة داخل هذا المجتمع الواحي. تعلم با العربي عن الحاج المختار؛ لكن حين توفي الأخير، مهمة تغسيله كانت شيئا يتقنه با العربي حينها. هكذا هي الحكاية: با العربي يغسلُ جثة معلمه قبل أن يبتلعها التراب.
فسر لنا با العربي: “تغسيل الأموات بالنسبة لي أمر طبيعي اليوم. لا يطرح أي إشكال أو دهشة. في البداية، كانت هناك بعض المخاوف؛ لكنها تلاشت بحكم مراكمة المزيد من الخبرة. إلى حدود الآن، قمت بتغسيل “أجساد” الموتى من الرجال في كل المناطق القريبة من قصر الملاح. هذه الحرفة تذكرك بالرحيل، وتجعلك تساهم في أن يلتقي العبد بربه نظيفا طاهرا”.
ومضى با العربي في حديثه قائلا: “من الناحية العملية، أقوم بتغسيل الميت من خلال الوضوء، ثم الاغتسال من الجنابة؛ أي ما نصطلح عليه نحن بالوضوء الصغير والوضوء الكبير. بعدها أقوم بتحنيطه، عن طريق ما نسميه بـ”الحنوط”، وهي أعشاب يعدها العطار لهذا الغرض. في النهاية نلبسه الكفن، ونضعه في التابوت.
كم تكلف هذه العملية؟ أجاب با العربي مؤكدا أن تغسيل الأموات لا يخضع بدوره لمنطق الربح، وهو عمل لوجه الله. “لا نحدد ثمنا لذلك؛ لكن من قدم شيئا نقبله ولا نرفضه. أما العائلات الفقيرة والمعوزة، فأجرنا جميعا وثوابنا عند الله، الذي نبتغي بوجهه كل ما نقوم به”.
ليس غريبا أن تكون خلاصتنا أن رأس المال عند با العربي هو الخير، وأن يكون من أهل الله؛ بيد أنه يحتفظ بشعاره الذي هو السعي إلى الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا. رجل بمهمات كثيرة: حلاق، غسال أموات، ويقوم بأعمال تطوعية جمة؛ من قبيل أن ينوب عن المؤذن في الأذان أحيانا ويسلك طريق الخير أينما كان، يساعد في المناسبات بأي شيء ممكن، وغالبا ما يطلب منه إعداد الشاي في المناسبات. في النهاية، يُجمع الكل على أنه كلما طرقت بابه طلبا في قضاء حاجة إلا ووجدته أهلا لها.
قال عنه سالم الذي صادفناه داخل المحل: “العربي رجل زاهد ومحب للخير”. حين أتأمل قصص العربي الكثيرة، أتأكد من صدقية المثل الشعبي الفيلالي القائل: “يْلا حبوك لا تشقى، ويلا كرهوك لا تكثر نفقة”.
با العربي الزاهِد
ولا يدرك معنى الحقيقة مُهْمِلٌ إلا من له شيخ من أهل الطريقة، يُريكَ فَتُدْرِكُ مِنْ نفسك نهضة، تميط عنك اللثام في أدنى مدة؛ هكذا يرى نفسه با العربي مريد من أهل الطريقة وهذا وجه آخر من حياة الحلاق المريد؛ إذ يقول عن تجربة العرفان والتصوف: “أنا مُريد للزاوية القادرية البودشيشية، أجتمع مع فقراء الزاوية بالريصاني يومي الأربعاء والسبت. نبدأ بتلاوة القرآن وما تيسر من الورد والصلاة على النبي ثم الدليل. نتلو الأذكار إلى أن نصل إلى مرتبة تكون فيها النفس في مقام التجلي”.
حسب با العربي التصوف تجربة لتهذيب الروح وتطويعها وتعويدها على ذكر الله والصلاة على النبي؛ فالتصوف عند با العربي بادٍ في حياته كلها يبدأ يومه بالصلاة على النبي وطلب البركة والتقوى والقناعة بالقليل وتلاوة الورد إلى أن يُغلق محله ويتوجه إلى بيته راضٍ بما قسمه الله له منتظرا بركة يوم جديد على باب الله.
بالقرب من دكان با العربي، يوجد محل في مدخل قصر الملاح لبيع الذهب، لبائع يسمى الصديق. هذا الرجل تجمعه صداقة جد قديمة ببا العربي، بفضل المجاورة القديمة سكنيا، ثم تجاريا، بحكم وجود دكانيهما قرب بعضهما. لا تتوقف علاقتهما هنا، فهما مريدان للزاوية القادرية البودشيشية. قلال الصديق عن با العربي: “هو ولد باب الله، فقير إلى الله ومريد وفي. يتصف بالصدق والنزاهة والأمانة. رجلُ تقوى ونعرفه منذ زمن. لا يشترطُ في الدنيا ويرضى بالقليل في كل شيء”.
لم تكن الصورة لتكتمل لو لم ننظر إلى با العربي الأب، كيف يعامل أبناءه؟ لذلك قصدنا محل ابنه هشام الحلاق، الكائن بحي القدس. أكد هشام أنه الأصغر من بين 6 أبناء لبا العربي، 4 إناث وذكران. قال وصوته يتخلله فخر كبير بوالده: “كنت ألازم أبي منذ صغري. علمني الحلاقة وكل شيء، وساعدني في كل شيء حتى قمت بفتح محل للحلاقة اليوم بشكل مستقل. ساعدني في المضي قدما في حياتي الشخصية والمهنية وكان له فضل كبير علي وعلى كل إخوتي وأخواتي”.
هشام، ابن با العربي، يقر بأنه لم يتعلم الحلاقة فقط عن والده؛ بل تعلم معها الكثير، كمحبة الناس وتقديرهم. قال هشام: “والدي رجل يحب الخير لجميع الناس. فعل أمورا لا تحصى ولا يحب أن يعرفها الناس. يقوم بكل شيء لوجه الله فقط. يتعاون مع الجميع. يسير في طريق الخير في كل المناسبات سواء كانت أعراس أو مناسبات أخرى ومآتم وغيرها”…
وفي النهاية، هذا هو حال با العربي، ولد باب الله. هذا جزء بسيط من حكايته؛ فهو في الأخير مثل كل الدراويش، الذين قال فيهم عبد الرحمان المجدوب “يَا أَهْلْ الله أَهْلْ الْصحْبَة الصالْحَة، لِي نْظْرْكُمْ حَاشَا يْخِيبْ”… با العربي ليس سوى رجل اجتمعت فيه الحكمة والبشاشة وحب الخير وبساطة أهل الجنوب الشرقي.
المصدر: وكالات