قال إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية وتدبير الأزمات، إن “انتشار الفساد يخلّف آثارا خطيرة تطال الدولة والمجتمع”، مؤكدا أن “الفساد يتسبّب في تقويض سلطة القانون والمؤسسات”، منبها إلى أن “الأمر يصبح أكثر خطورة عندما تنتقل عدوى الظاهرة إلى داخل بعض المؤسسات التي يفترض أن تقاومه من قبيل أجهزة الأمن، ومؤسسة القضاء، والأحزاب السياسية والنقابات، والبرلمان، وهيئات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام…”.
وبعدما تناول لكريني بعض العوامل التي توفر المناخ المناسب لانتعاش الفساد، أشار، في مقال له بعنوان “قيم المواطنة في مواجهة الفساد”، إلى “أهمية ترسيخ قيم المواطنة، في علاقة ذلك بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص، والحرية في مختلف تجلياتها، والعدالة، والمشاركة في الحياة العامة، والمسؤولية الاجتماعية”.
هذا نص المقال:
يحيل الفساد في شكله المالي أو الإداري والسياسي إلى سوء استعمال السلطة، وتوظيفها في خدمة المصالح الخاصة، بصور تتنافى مع الاتفاقيات الدولية والقوانين الجاري بها العمل، وضدّا على إرادة وحقوق المواطنين.
ويقترن المفهوم بغياب روح المواطنة، وبتزوير إرادة الناخبين، والسطو على المال العمومي، والاغتناء غير المشروع، وتكريس الاستهتار بالقوانين، وبمتطلبات الشفافية والمنافسة الشريفة، وبتكافؤ الفرص داخل المجتمع.
يخلّف انتشار الفساد آثارا خطيرة تطال الدولة والمجتمع، من حيث تدمير الأسس الاقتصادية للدولة، وتهديد التماسك المجتمعي، وعرقلة المشاريع التنموية، وحرمان خزينة الدولة من الموارد؛ بفعل التهرّب الضّريبي، ونهب وإهدار الأموال العامة في أغراض شخصية أو بتهريبها نحو الخارج، بدل توظيفها في مشاريع حيوية متصلة بمجالات الصّحة والتعليم والسّكن والبنى التحتية، ما يفرز مظاهر من التهميش والفقر والمس بحقوق الإنسان.
كما يتسبّب الفساد في تقويض سلطة القانون والمؤسسات، ويقتل روح المبادرة والإبداع، ويسهم في انتشار العزوف السّياسي، وفي هروب الاستثمارات نحو الخارج. ويحرّض أيضا على الانتقام، وعلى تكريس الإفلات من العقاب، ويسهم أيضا في تزوير إرادة المواطن، ما يحول دون بروز الكفاءات وتجدّد النّخب.
ويصبح الأمر أكثر خطورة؛ عندما تنتقل عدوى الظاهرة إلى داخل بعض المؤسسات التي يفترض أن تقاومه من قبيل أجهزة الأمن، ومؤسسة القضاء، والأحزاب السياسية والنقابات، والبرلمان، وهيئات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام بمختلف وسائطها، بما يجعل منه ما يشبه “دولة” داخل الدولة.
لا يمكن للتنمية أو الديمقراطية أن يترعرعا وسط الفساد، فهذا الأخير يفرغ كل المبادرات الإصلاحية من معناها، كما يحول دون ترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين، ما يجعله عاملا لمصادرة الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ولتقويض كيان الدولة والمجتمع، ولزرع الاحتقان وعدم الاستقرار.
وتشير الكثير من التقارير والدراسات إلى انتشار الفساد بكل أصنافه في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإن بدرجات مختلفة ومتفاوتة، فقد ذكرت منظمة الشفافية الدّولية أن المعدّل العام للدول العربية في مؤشر مدركات الفساد للعام 2021 هو 34 من مائة، وأكّدت أن السخط العام من تنامي الظاهرة، يمكن أن يتحوّل إلى أعمال عنف.
لا يمكن لارتكاب الفساد أن يبرّر بأي سبب من الأسباب، ومع ذلك؛ هناك مجموعة من العوامل التي توفر المناخ المناسب لانتعاشه، فعلى المستوى السياسي، يمكن الإشارة إلى عدم فعالية ونجاعة المؤسسات السياسية والدستورية، وضعف هامش الحريات، وغياب الشّفافية أو تكافؤ الفرص بين المواطنين. وعلى المستوى الاقتصادي، يشار إلى هشاشة الأوضاع الاقتصادية، وعدم قيامها على أسس المنافسة والشفافية، وارتباطا بالعوامل القانونية والإدارية، نشير إلى ضعف الرقابة على المال العام، وإلى التعقيدات الإدارية، وضعف القوانين وعدم مسايرتها للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، وعدم استقلالية القضاء، وعدم تطوير دخل وكفاءات الأطر الإدارية، أما في ما يتعلق بالعوامل الاجتماعية، فيمكن اختصارها في غلاء الأسعار، وانتشار البطالة، وسيادة “ثقافة” التطبيع مع الفساد، ووجود اختلالات على مستوى ترسيخ قيم المواطنة.
ووعيا بخطورته على التنمية الإنسانية وعلى السلم والأمن الدوليين، وسعيا لتعزيز المساءلة والحكم الرشيد ضمن الممارسات الدولية، بعد أن أضحى ظاهرة عابرة للحدود، اعتمدت الجمعية العامة، اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بتاريخ 31 أكتوبر 2003 (دخلت حيز التنفيذ في شهر دجنبر 2005)، كما أقرّت تاريخ التاسع من شهر دجنبر من كل عام، يوما دوليا لمكافحة الفساء، ولإذكاء الوعي بأهمية هذا الخيار، وبدور الاتفاقية الدولية في هذا الخصوص.
إن مواجهة هذه الآفة انسجاما مع معايير حقوق الإنسان، تقتضي توافر إرادة سياسية حقيقية، كما تتطلب المصادقة على الاتفاقيات الدولية ذات الصّلة، وسن تشريعات صارمة في هذا الخصوص، بالإضافة إلى تعزيز سلطة القضاء، ومنع المفسدين من الولوج إلى مراكز القرار.
وإلى جانب هذه المداخل الهامة، لا تخفى أيضا أهمية ترسيخ قيم المواطنة، في علاقة ذلك بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص، والحرية في مختلف تجلياتها، والعدالة، والمشاركة في الحياة العامة، والمسؤولية الاجتماعية. ذلك أن المواطنة باعتبارها تجسيدا لعلاقة الانتماء التي تربط الفرد بالدولة بناء على ضوابط قانونية واجتماعية تضمن الحقوق وتلزم بالواجبات، هي عصب الممارسة الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان.
وإذا كان ترسيخ قيم المواطنة ومرتكزاتها يسائل الدولة بشكل أساسي من حيث ربط المسؤولية بالمحاسبة، بما يجعل المواطن في قلب عملية مكافحة ونبذ الفساد، فإنه يعني أيضا مختلف الفعاليات والقنوات المعنية بوظائف التنشئة الاجتماعية المجتمع من أسرة ومؤسسات تعليمية وإعلام وأحزاب سياسية ومجتمع مدني.
المصدر: وكالات