بعد أن استعادت الأسواق المالية في العالم قدرا من الهدوء وتجاوزت تداعيات أزمة بنوك سيليكون فالي وسيجنتشر في الولايات المتحدة وكريدي سويس جروب في سويسرا، قال جامي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك الاستثمار الأمريكي جيه.بي مورجان تشيس، إن الأزمة المصرفية قاربت على النهاية حتى لو انهارت بنوك أخرى.
لكن ألتو أوكومين، استشاري إدارة الأصول والاستثمارات المقيم في جنيف، وجيري هار، أستاذ إدارة الأعمال الدولية في جامعة فلوريدا الدولية الباحث في مركز ويدرو ويلسون بواشنطن، يريان أن القطاع المصرفي في العالم يظل عرضة للأزمات في المستقبل بسبب التطورات المفاجئة للاقتصاد الكلي أو الأوضاع الجيو-سياسية.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية، سيطرت سحابة ثقيلة من التشاؤم سياسيا واقتصاديا وثقافيا على الولايات المتحدة، حيث ظلت غالبية الأمريكيين تفتقر إلى النظرة الإيجابية للحياة بشكل عام، بغض النظر عن اختلاف الطبقة الاجتماعية أو العرق أو الجنس أو المنطقة الجغرافية.
وفي 16 مارس من العام الماضي، أعلنت لجنة السوق المفتوحة المعنية بإدارة السياسة النقدية في مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي الزيادة الأولى التي تلتها سبع زيادات متتالية لأسعار الفائدة الرئيسية، فكانت النتيجة مؤلمة لكل من أسواق المال والمستهلكين العاديين.
وكان النموذج الأبرز لتداعيات زيادة الفائدة انهيار بنكي سيليكون فالي (إس.في.بي) وسيجنتشر بنك الأمريكيين، الشهر الماضي، مع ضرورة الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ظلت طوال العقدين الماضيين تشهد انهيار بنكين تقريبا كل شهر، لكن لم يكن بضخامة إس.في.بي وسيجنتشر.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية، قال الاقتصاديان أوكومين وهار إن الأزمة المصرفية الحالية ليست من ذلك النوع الذي يحدث في يوم وليلة، وإنما تشكلت عبر سنوات. فالزلزال المدمر في شرق تركيا والحرب الروسية في أوكرانيا وجائحة كورونا كلها نتاج عمليات وتفاعلات طويلة المدى. هذه الأحداث ليست إلا محفزات تخرج التوترات الموجودة إلى السطح، في الوقت نفسه تتيح لنا الدروس المستفادة من هذه الأحداث الكبرى العمل على منع تكرارها أو على الأقل تقليل آثارها. لكن فرض قواعد جديدة لمنع أنواع معينة من الأزمات يمكن أن يحمل بذرة لأشكال أخرى من الأزمات.
وكانت قروض التمويل العقاري عالية المخاطر فجرت في عام 2008 أزمة ائتمان وموجة إفلاس واسعة النطاق وركودا اقتصاديا عالميا. واحتاجت مواجهة هذه الأزمة ضخ كميات هائلة من السيولة النقدية بشكل منسق، وتنفيذ عملية إعادة هيكلة كبرى للقطاع المصرفي. وتم منع المخاطر الكبرى التي تهدد النظام المصرفي من خلال استخدام كل أشكال السيطرة على الإقراض عالي المخاطر وتعزيز ميزانيات البنوك.
ولكن جاء انهيار بنك إس.في.بي بعيدا عن كل المخاطر والأخطاء التي كانت معروفة. فميزانيته تبدو جيدة واستثماراته مركزة في سندات الخزانة، وهو ما يتناسب مع طبيعة قاعدة عملائه، وأغلبهم من قطاع التكنولوجيا. فمع انحسار جائحة فيروس كورونا المستجد، تراجع الطلب العالمي على خدمات ومنتجات شركات التكنولوجيا، فبدأت الأخيرة عمليات تسريح واسعة للعمال، واضطر عملاء البنك لسحب مدخراتهم بمعدلات أعلى من المعتاد.
في الوقت نفسه تراجع معدل نمو الحسابات الجديدة، مما اضطر البنك لبيع محفظته من السندات بخسار كبيرة، خاصة مع زيادة أسعار الفائدة، مما يقلل جاذبية السندات في السوق. وقد تبعت ذلك حالة ذعر بين المودعين، فتعثر البنك في تلبية طلبات الموعدين، مما استلزم تدخل الحكومة لمنع انتقال العدوى إلى بنوك أخرى.
ومع ذلك، انهار عدد من البنوك الأمريكية الأصغر مثل سيجنتشر، لكن الصدمة الحقيقية ظهرت مع المشكلات المستمرة التي واجهها بنك كريدي سويس السويسري العريق، البالغ عمره 167 عاما، الذي يعتبر من المؤسسات المالية “الأكبر من أن يتم السماح بانهيارها”. ووصلت حالة الفزع إلى ذروتها، مما أجبر الحكومة السويسرية على التدخل لمنع انهيار البنك وسهلت استحواذ منافسه يو.بي.إس جروب عليه مقابل حوالي 3 مليارات دولار.
لكن هذه الأحداث كشفت عن أوجه قصور جديدة في النظام المصرفي وعن فكرة مثيرة للقلق تقول إنه حتى البنوك ذات الميزانية الجيدة والوضع المالي القوي والكبيرة، ليست محصنة ضد اندفاعات العملاء الغوغائيين غير العقلانيين عند ظهور بوادر أي أزمة.
ويرى أوكومين وهار أن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة انتقالية في ظل مؤشرات متباينة تشير إلى استمرار الضغوط التضخمية مع احتمالات ركود وشيك. ويتعين الآن على مجلس الاحتياط الاتحادي الأمريكي الذي ركز على كبح جماح التضخم، التعامل مع تداعيات تشديده القوي للسياسة النقدية، مما أدى إلى الركود في أسواق السندات والعملة. وتواجه الولايات المتحدة تحديات عدة، منها تباطؤ الاقتصاد والعجز القياسي في الميزانية، والانتخابات الرئاسية عام 2024. كما يمكن أن يؤدي تزايد الخلافات مع كل من روسيا والصين إلى احتكاكات اقتصادية، مع حتمية فك الارتباط الجزئي مع اقتصاد الدولتين.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تواجه أوروبا تحديات عديدة، منها صراع يستنزف المورد وتزايد الاضطرابات الاجتماعية وأزمة مصرفية مستمرة. وعلى المدى الطويل، على أوروبا تأمين احتياجاتها من الطاقة والتعامل مع الخلافات الأيديولوجية بين الشرق والغرب. فمحاولات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتقليل الاعتماد على قطاع التصنيع في الصين من خلال دعم الصناعات الأمريكية تثير خلافا أمريكيا أوروبيا.
كل هذه العوامل والتحديات تدق أجراس الخطر من نشوب أزمة مصرفية جديدة، ليصبح السؤال الطبيعي: ما هو دور الحكومة الواجب عليها لتخفيف حدة الأزمات المصرفية ومنع نشوبها في المستقبل؟ يقول البعض إنه يجب تشديد القواعد التنظيمية، في حين يقول البعض الآخر “اتركوا السوق تصحح أوضاعها وتعالج مشكلاتها”. والحقيقة أنه لا يوجد دواء سحري للأزمات، ولا يوجد طريق أمام المؤسسات المالية لعزل نفسها عن التطورات السلبية المفاجئة للاقتصاد الكلي أو الأوضاع الجيو-سياسية. والملاذ الوحيد المتاح أمام المؤسسات المالية لتجنب الأزمات المستقبلية، هو التأكد من قوة وضعها الرأسمالي وتنويع محافظ استثماراته وإجادة إدارة المخاطر واستخدام أحدث التكنولوجيا، والاستعانة بأفضل الموظفين، بمن فيهم الرؤساء التنفيذيون.
المصدر: وكالات