كنتُ من المحظوظين الذين أتموا مرحلتي التعليم الابتدائي والمتوسط في أول مدرستين تبنيهما شركة أرامكو النفطية بمدينة الخبر، وتحديداً في زمن مديرهما المربي عبدالله بن عبدالرحمن أبونهية. وقتها عرفنا، من خلال الصحف التي كانت تصل إلى المكتبة المدرسية، أن هناك مسؤولاً تربوياً آخر يحمل اسم «عبدالله بن محمد أبونهية» ويعمل في الإدارة العامة للتعليم بالمنطقة الشرقية. سمعنا باسم الرجل دون أن نراه أو نتعرف عليه، فتشكلت في أذهاننا صورة له مشابهة لصورة ابن عمه، مدير مدرستنا الذي عُرف بالحزم والشدة في معاقبة الطلبة الكسالى والمشاغبين. وتمر الأيام وتشاء الصدف، وأنا في منتصف المرحلة الجامعية أن ألتقي به وجهاً لوجه في مكتبة بالدمام في سبعينات القرن الماضي لأجده خلاف الصورة التي كوناها عنه، بمعنى أنه لم يكن مفزعاً في هيئته كحال معلمي ومربي ذلك الزمن، أو جافاً في تعامله. لقد وجدته شخصاً ضئيل الحجم قصير القامة ذا صوت منخفض ووجه بشوش وتعابير رقيقة، واستعداد لمقابلة مراجعيه وحل شكاواهم دون تمييز بين صغير وكبير أو غني وفقير.
كان سبب زيارتي له أن شخصاً لجأ إليّ لمساعدته في إلحاق طفله بالمرحلة الابتدائية لأن إحدى المدارس القريبة من منزله رفضت قبوله بحجة أنه لا يملك هوية، وكان ذلك بسبب تكاسل والده الأمي في تسجيله بدفتر النفوس (التابعية)، وحينما وضعت الأمر بين يدي أبونهية واتضحت له الصورة، سارع بكتابة رسالة موجهة إلى مدير تلك المدرسة لقبول الطفل فوراً، وهو يقول: «هذا عبث.. هناك قانون يمنع حرمان الطفل من التعليم، ويجيز له الالتحاق بالمدرسة، ومسألة الهوية يمكن انتظارها إلى حين استخراجها دون أن يدفع الطفل البريء الثمن من مستقبله الدراسي». هكذا كان الرجل يتصرف بحس المسؤول المؤتمن على مستقبل الصغار، فلا يتردد في حل أي إشكال يعيق تعليمهم أو يتسبب في حرمانهم من حق أساسي من حقوقهم.
مواليد الهفوف
ولد أبونهية في حي النعاثل بالهفوف سنة 1928 لأسرة معروفة تعود جذورها إلى مدينة الدرعية ولأبنائها مساهمات في تأسيس الدولة السعودية ومنهم جد صاحبنا الأكبر (عبدالله أبونهية) الذي كان ثاني من حمل البيرق السعودي إبان حصار قوات إبراهيم باشا للدرعية سنة 1818م، ومنهم أيضاً محمد بن عبدالعزيز ابونهية (توفي عام 1236 للهجرة) صاحب قصائد البكائيات المشهورة على الدرعية، الذي كان قائداً لسلاح المدفعية زمن الإمامين سعود بن عبدالعزيز وعبدالله بن سعود.
يقول الزميل عبدالعزيز البدر في مقال موسع عن المربي عبدالله محمد أبونهية في مجلة الاقتصاد (10/4/2016) أنه بسبب اجتياح القوات التركية للدرعية وقيامها بهدم منازل أهلها ومطاردتهم قررت أسرة أبونهية في العقد الثاني من القرن 19 النزوح إلى الأحساء كغيرها من الأسر النجدية طلباً للأمان، فاستوطنت الهفوف. لكن المؤرخ والأديب الأحسائي محمد بن عبدالرحمن آل إسماعيل أفادنا في مقال كتبه قبل ذلك في صحيفة الجزيرة (6/7/2012) ببعض المعلومات الإضافية ومنها أن آل أبونهية كانوا من أعيان الدرعية ووجهائها، وأتى على ذكرهم ابن بشر في كتابه «المجد في تاريخ نجد»، والشيخ عبدالله بن خميس في «معجم اليمامة»، وأن جدهم إبراهيم قتل على يد جيش إبراهيم باشا عند دخوله الدرعية، وأن الأسرة انتقلت على إثر ذلك إلى الأحساء، فسكنت أولاً بلدة المبرز حيث بنوا لأنفسهم مسجداً لا يزال قائماً، قبل أن ينتقلوا إلى حي النعاثل بالهفوف. وبسبب دور الأسرة المشرف في التاريخ السعودي أطلق اسمها على شارعين أولهما «شارع أبونهية» في حي الخالدية بالدرعية، وثانيهما «شارع محمد أبونهية» في حي السويدي بالرياض. وفي الهفوف برزت الأسرة مجدداً وتملكت أكبر البيوت من تلك التي كانت تقام فيها أعراس أهالي حي النعاثل. وهذا البيت هو الذي شهد ميلاد المربي عبدالله أبونهية عام 1928.
نشأ وسط نخيل الأحساء
نشأ أبونهية وكبر في بيت أسرته الميسورة المتعلمة وسط نخيل وخضرة الأحساء، وتطبع بطباع الأحسائيين كالتسامح والطيبة والكرم والابتعاد عن التزمت والغلو. وحينما بلغ سن الالتحاق بالمدارس أدخله والده إلى الكتاتيب التقليدية التي انتقل منها إلى مدرسة النجاح ثم إلى «مدرسة الهفوف الأميرية» الابتدائية التي تعد أول مدرسة نظامية في المنطقة الشرقية بأسرها في العهد السعودي (افتتحت سنة 1356 للهجرة تحت إدارة المربي محمد بن علي النحاس، واتخذت من مبنى الحميدية بجوار سوق القيصرية الذي كان داراً للبلدية زمن الأتراك، مقراً لها، وخرّجت أول فوج من الطلبة سنة 1362 للهجرة، وسبقتها مدارس أهلية عديدة في العهد التركي تأسست بجهود الأهالي والوجهاء).
تخرج أبونهية من المدرسة الأميرية ضمن الفوج الثاني من الخريجين سنة 1363 للهجرة، وكان ترتيبه الأول على مستوى المملكة، ما يشير إلى أنه كان طالباً مجتهداً ومواظباً وحريصاً على العلم، وإلا لما حقق تلك النتيجة في تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها الطلبة يذهبون إلى مدارسهم مشياً على الأقدام وسط الطرقات الطينية ويستذكرون دروسهم على ضوء الأتاريك، ويعودون إلى بيوتهم جوعى ومنهكين. وخلال سنوات دراسته أثبت أبونهية براعة ومهارة فائقة في مادتي الخط والرسم، فكان يُعهد إليه بكتابة اللافتات الترحيبية في مناسبات استقبال مدرسته للضيوف. وبسبب شغفه بالخط والرسم صار ممن يتقنون فنون الكتابة الدقيقة على الأشياء الصغيرة كحبات الأرز والبيض.
سرد أبونهية في حواراته الصحفية المتفرقة أسماء بعض من زاملهم في المدرسة الأميرية فذكر عبدالله الزاهد وعبدالله الباز، وعبدالرحمن الحواس والدكتور عبدالله العمران، والدكتور عبدالله المبارك. كما عدد أسماء بعض ممن تلقى العلم على أياديهم فذكر عبدالله الملا وعبدالله الخيال ويوسف بن راشد المبارك وعبداللطيف بن عبدالعزيز المبارك وعبدالله بن عبدالرحمن المبارك وعبدالمحسن المنقور، وعبدالعزيز التركي. إلى ذلك تذكر أبونهية أسماء ثلة من الطلبة الذين قام هو بتدريسهم ومنهم: الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة وأخوه الأمير سعد الفيصل، ومحمد العبدالهادي مساعد مدير عام التعليم بالمنطقة الشرقية السابق ومحمد العلي مدير المراسم بإمارة المنطقة الشرقية سابقاً وسليمان المطلق وصالح الحافظ والشيخ صالح السالم أمير الطائف الأسبق.
تربوي لامع
حياته المهنية شهدت تقلبات كثيرة لجهة الوظائف التي شغلها وأماكنها، لكنها لم تخرج عن نطاق التعليم في المنطقة الشرقية، لذا تمّ وصفه بـ «أحد ألمع وأبرز المساهمين في النهضة التعليمية في شرق السعودية». فقد دخل مجال العمل مبكراً وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة، وذلك حينما تمّ تعيينه في عام 1365 هجري بوظيفة مدرس بالمدرسة الأميرية الابتدائية، فاستمر شاغلاً لتلك الوظيفة لمدة خمسة أعوام إلى أن تمت ترقيته إلى وظيفة إدارية في المدرسة ذاتها، وكان اسمها قد تغير آنذاك من «المدرسة الأميرية» إلى «مدرسة الهفوف الأولى»، وبعد فترة قصيرة حصل على ترقية أخرى تمثلت في تعيينه مديراً للمدرسة.
في عام 1374 للهجرة (1955م تقريباً) كان أبونهية، بسبب كفاءته الإدارية والخبرة التي جمعها من وظائفه السابقة، على موعد مع ترقية أخرى. ففيه صدر قرار بنقله إلى الدمام ليشغل وظيفة مفتش إداري بمديرية تعليم المنطقة الشرقية، لكن إقامته في الدمام لم تتجاوز السنتين. ففي عام 1376 للهجرة أعيد إلى الأحساء كي يفتتح إدارة التعليم بها ويترأسها، فمكث هناك مؤدياً مهامه على أكمل وجه حتى عام 1382 للهجرة الذي انتقل فيه مجدداً إلى الدمام للعمل مساعداً لمدير تعليم المنطقة الشرقية آنذاك الشيخ عبدالعزيز التركي (شخصية تربوية كانت قد عملت في الأحساء ودرّست أبونهية في المدرسة الأميرية قبل أن يتزاملا في العمل الإداري بمدرسة الهفوف الأولى). وحينما صدر قرار في عام 1387 للهجرة بنقل الشيخ التركي إلى لندن لشغل وظيفة الملحق الثقافي بالسفارة السعودية هناك، آلت وظيفته السابقة إلى أبونهية الذي صار مديراً عاماً للتعليم بالمنطقة الشرقية مذاك وحتى عام 1397 للهجرة.
في سنة 1397 للهجرة (حوالى عام 1977م) تقدم بطلب للتقاعد من وظيفته، وكان قبل ذلك قد تقدم بطلبين مماثلين دون ان يُستجاب له لحاجة التعليم لخبرته. غير أن هذه المرة جاءته الموافقة بسبب سياسة جديدة أقرتها وزارة المعارف السعودية آنذاك تضمنت تعيين مدراء عامين للتعليم في كل من الرياض وجدة والدمام من حملة الدكتوراه. وهكذا ترك أبونهية وظيفته التربوية بعد مشوار امتد لـ32 عاماً، لخليفته سعيد عطية أبوعالي الغامدي، لكن دون أن يترك العمل الحكومي. إذ تمت إعارته من وزارة المعارف إلى هيئة الرقابة والتحقيق لمدة سنتين، وبعد انقضاء هاتين السنتين تعاقدت معه الهيئة مجدداً لمدة 3 سنوات انتهت بتركه العمل الوظيفي ليتفرغ لحياته الخاصة.
مكتبة التعاون الثقافية
لم يحصر أبونهية جهوده في الارتقاء بالتعليم فقط، وإنما كانت له مساهمات في مجالات أخرى، ومحاولات لخوض تجارب بعيدة عن التعليم، كما مارس عدداً من الهوايات المحببة لنفسه منذ الصغر. فالرجل الذي ظلت القراءة هواية ترافقه منذ الصغر سعى إلى نشرها بين مواطنيه، فقام بمشاركة ثلاثة من أصدقائه (عبدالمحسن المنقور وعبدالله الملا وإبراهيم الحسيني) بتأسيس أول مكتبة ثقافية بالمنطقة الشرقية في سوق القيصرية بالهفوف تحت اسم «مكتبة التعاون الثقافية»، وذلك في عام 1367 للهجرة، غير أن مشاغل الحياة فرقت المؤسسين وشغلتهم عن إدارة المكتبة باستثناء عبدالله الملا الذي تفرغ للمشروع وواصل الاهتمام به. وإذا كان مشروع المكتبة هو العمل التجاري الأول الذي خاضه صاحبنا، فإنه حاول بعده، وهو على رأس عمله التربوي، خوض تجارب تجارية أخرى على مدى 3 سنوات، دون أن يحقق نجاحاً يذكر، وهو ما جعله يقول إنه «من الصعب أن يتحول التربوي إلى تاجر ويتعايش مع مجتمع رجال الأعمال».
رجل الصحافة وأحد مؤسسي «اليوم»
على أن البصمة الكبرى التي تركها أبونهية، خارج نطاق بصماته التربوية، تمثلت بمساهمته في تأسيس دار اليوم للصحافة بالدمام، التي تبنت فكرتها مجموعة من رجالات المنطقة الشرقية وأعيانها بُعيد صدور مرسوم ملكي في 13 يناير 1964 بتأسيس المؤسسات الصحفية بديلاً عن صحافة الأفراد، حيث كان هو من ضمن المجموعة التي تقدمت بطلب تأسيس مؤسسة صحفية بالمنطقة الشرقية أسوة بمثيلاتها في غرب البلاد ووسطها، التي ضمت إضافة إليه كلاً من الشيخ حمد بن علي المبارك والشيخ عبدالعزيز التركي مدير تعليم المنطقة الشرقية، والدكتور طبيب عمر الزواوي، وقاضي قضاة الظهران الشيخ عثمان الحقيل، ورئيس بلدية الخبر الشيخ عبدالرحمن الشعوان، ورجل الأعمال عبدالكريم الخريجي، والشيخ علي الهديب، وأمير الخبر عبدالعزيز بن ماضي، والوجيه محمد عبدالعزيز الخزيم، والأستاذ فهمي يوسف البصراوي كبير مذيعي تلفزيون أرامكو، والأديب حسين عبدالرحمن خزندار. وحينما جاءت الموافقة من الجهات الرسمية سنة 1965 انعقدت الجمعية العمومية فتم انتخاب المبارك رئيساً لمجلس الإدارة، وأبونهية نائباً له، وعهدت رئاسة تحرير الصحيفة الوليدة إلى حسين خزندار بحكم خبرته الصحفية القديمة في صحافة الحجاز، وتولى مساعد الخريصي منصب مدير الإدارة.
ظل أبونهية يشغل منصب نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة اليوم لسنوات طويلة، وحينما توفي المبارك انتخب بديلاً له، لكنه آثر الاستقالة بعد فترة مع احتفاظه بموقعه عضواً في المجلس. وهكذا نرى أن الرجل عاصر البدايات الصعبة لولادة أولى جرائد المنطقة الشرقية في عهد المؤسسات، وشهد مخاض تحولها من صحيفة أسبوعية قليلة الصفحات والمواد إلى صحيفة نصف أسبوعية فإلى صحيفة يومية دسمة تضاهي غيرها من الصحف السعودية في الشكل والمحتوى.
يقول الأديب خليل إبراهيم الفزيع، رئيس نادي المنطقة الشرقية الأدبي سابقاً وأحد الذين تولوا رئاسة تحرير «اليوم»، في مقال له بجريدة اليوم (31/3/2012) أن أبونهية كان أحد كتاب الجريدة الأوائل، وأنه شكل مع حمد المبارك ومساعد الخريصي مثلث إنقاذ لها بعد أن شارفت على الانهيار على إثر تعثرها مالياً، وكادت أنْ تعلن إفلاسها وتغلق أبوابها في نهاية سبعينات القرن العشرين، لولا حكمة وعزيمة هؤلاء الرجال. وفي المقال نفسه تحدث الكاتب عن ذكرياته مع أبونهية فقال إنه كان يتمتع بنبل النفس وكرم الأخلاق، والهدوء والحكمة في معالجة الأمور، إلى جانب ثقافة تراثية واسعة، «فكان مجلسه لا يمل وحافلاً بأصدقائه من رواد الأدب والصحافة والتعليم».
في 29 مارس 2012 انتقل أبونهية إلى جوار ربه مخلفاً وراءه سيرة عطرة مليئة بالكفاح والعطاء، وتاريخاً من الإنجازات التربوية والصحفية، وثلاثة من البنين وخمساً من البنات. وبمناسبة وفاته تبارى محبوه وأصدقاؤه وتلامذته في رثائه بما يليق بشخصه. ومن جميل ما قرأت عنه كلمة نشرها الكاتب مطلق العنزي بجريدة اليوم (11/9/2015) جاء فيها (بتصرف): «رحم الله أبونهية، كان مربياً ومؤدباً ومتأدباً، بهي الوجه وعفيف اللسان، وقد أمد الله بعمره إلى أن أصبح نادراً غريباً في زماننا، وشهد بداية زمن ما كان يدور بخلده أن يشهده، لا يتصالح معه ولا يليق. أتذكره خفيض الكلام، لا تسمع في لسانه لغواً ولا لمزاً ولا تجريحاً أو تعريضاً، كأنما لو كان وحيداً، لا يمت بصلة لصخبنا وضوضائنا، وغضبنا ونفسياتنا الحادة المتأزمة المتحفزة».