قال الخبير في العلوم الإنسانية عبد الله بوصوف إن “خطاب رئيس الجزائر عبد المجيد تبون خلال مروره على قناة الجزيرة القطرية، هو خطاب موجه أساسًا للاستهلاك الداخلي تنفيسا عن الشعب الجزائري وهو ينتظر دوره في طوابير الحليب والسكر واللحم والبيض..”
وأشار بوصوف، في مقال له بعنوان “المقابلة مقابل المكالمة بين ماكرون وتبون”، إلى أن “تبرير المرور الأخير للرئيس الجزائري على قناة الجزيرة يفتقد لأسباب موضوعية”، وأن “ظهوره المتكرر أظهر عيوبه التواصلية ومحدودية قدراته في الإقناع”، مبرزا أن “أسئلة الصحافية الجزائرية كانت مخدومة على مقاسات الصحراء المغربية وإغلاق الحدود ونقطة اللاعودة ومغازلة الشعب الإسباني”.
هذا نص المقال:
لا أعتقد أن مرور رئيس الجزائر عبد المجيد تبون على قناة الجزيرة القطرية في 23 مارس 2023 يجب أن يمر مرور الكرام، ليس لـقـوة مضامينه أو لِـتَميز قراءاته للأوضاع الدولية والآفاق الجيو-استراتيجية… فالقائمون على النظام العسكري الجزائري دفعوا بالرئيس بذاته إلى تنظيم لقاءات دوريـة مع الإعلام المحلي أو مع قنوات أجنبية معـروفة بأجندتها السياسية والاقتصادية، سواء من روسيا أو فرنسا أو عـربية، حتى يتعود الجميع على مستوى خطاب السيد الرئيس وعلى “مستملحاته السياسية” وعنتريات القـوة الضاربة في ملفات ساخنة كليبيا وتونس وسوريا وإثيوبيا ودول الساحل، ودور الجزائر في ثورات دول أوروبية وتأسيس جمهوريات أوروبية انطلاقا من الجزائر وتحرير جنوب إفريقيا وتيمور الشرقية، وغيرها من المفرقعات الإعلامية.
وهو خطاب موجه أساسًا للاستهلاك الداخلي تنفيسا عن الشعب الجزائري وهو ينتظر دوره في طوابير الحليب والسكر واللحم والبيض…
ولكن لأن مرد الأهمية هو التساؤل حول سبب الخروج ونزوله، إذ يمكن القول ـ مجازا ـ بقبول مبررات اللقاء الأول على قناة الجزيرة بتاريخ يونيو 2021، حيث تم تمرير رسائل تهم الوضع الداخلي والفساد المالي والحراك الشعبي وتبرير الاعتقالات الجماعية لمسؤولين كبار وصفهم بالعصابة واللصوص، كما تــم الحديث عن أزمة الانفصالي بنبطوش وزيارته الاستشفائية إلى إسبانيا، واختزل أزمته مع فرنسا في وجود لوبيـات مكونة أساسا من الحَرْكيـين.
فلـم نكن لنتساءل لو كان الضيف، مثلا، هو الرئيس التونسي قيس السعيد، نظرا للظروف المالية والاقتصادية الصعبة والأزمة السياسية والعـزلة الدولية التي تعرفها تونس، وخدعة المساعدة بـ 300 مليون يورو من طرف نظام الجزائر. لم نـكن لنتساءل لو كان الضيف هو الرئيس الإيراني للحديث عن المصالحة مع الشقيقة السعودية بوساطة صينية. لم نكن لنتساءل لو كان الضيف هو رئيس الحكومة الليبية للحديث عن الأوضاع هناك ومسألة اختفاء كميات كبيرة من اليورانيوم، وعن جديد الانتخابات الليبية، خاصة وأن الساحة الجزائرية لا تـعرف جديدا على المستوى الداخلي وأزمتها مع مطالب الحراك الشعبي وقمع الحريات، أو على المستوى الخارجي ما دامت تنتهج فقط خطة “رد الفعل”، كما جاء على لسان الرئيس سواء في اللقاء الأول أو الثاني.
فعندما أعلن المغرب، مثلا، في فبراير 2023 عن تقديمه ألفيْ طن من الأسمدة للمزارعين في دولة الغابون أثناء زيارة الملك محمد السادس، أعلن النظام الجزائري مباشرة عن ضخ مليار دولار في صندوق الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي التابعة لرئاسة الجمهورية، لتمويل مشاريع تنموية بإفريقيا، وهو رد فعل انفعالي ووعود وهمية، في حين إن المغرب، في إطار سياسته الثابتة، قــدم منتجات الفوسفاط هبة للمزارعين في رواندا والسنغال وموريتانيا، حيث خصص نصف مليون طن من الأسمدة للدول الإفريقية، نسبة كبيرة منها عبارة عن هبات وأخرى بسعر منخفض.
لذلك، نعتقد أن أسباب تبرير المرور الأخير للـرئيس الجزائري على قناة الجزيرة تـفتقـد للموضوعية، ولأن ظهوره المتكرر أظهر عيوبه التواصلية ومحدودية قدراتـه في الاقنـاع. فـقـد كان ضروريا توظيف خدمات صحافية تشترك مع الرئيس في الجنسية الجزائرية وفي تسويقه لأطروحة الانفصاليين، ونعني بها خديجة بنقنة، التي عملت على تلقينه بقية السيناريو وكأنها تقوم بدور “الملقن المسرحي”، وبهذا يفقد اللقــاء موضوعيته وحياده الواجب إعلاميا حتى قبل بدايـته.
وقــد ظهرت جليا طيلة 26 دقيقة رغبة النظام العسكري الجزائري في توضيح موقفه المتبايـن من المتغيرات والتحالفات العالمية، خاصة علاقاته التقليدية بروسيا وفتح سفارة بكييف، وتواجد أكبر شركات النفط الأمريكية بالجزائر ومعاهدات استراتيجية مع إيطاليا وعقود سخية لشركات “ENI” الإيطالية، و”TotalEnergy” الفرنسية، وشركات بريطانية وهولندية وألمانية، وإعفاءات ضريبية لشركات أجنبية أوروبية وعربية وصينية.
ورغم ذلك، فقد ظهرت المنشطة خديجة بنقنة متحمسة للقاء رئيس دولتها في قاعة اجتماعات مجلس الثورة، على الرغم من أن الحقيقة التاريخية تـقول إن الثورة الجزائرية ولدت في مدينة الناظور بالمغرب وتفرعت في ليبيا وتونس ومصر، وتكونت حكومة المنفى وفاوضت الجنرال ديغول، وإن إعلان نتائج الاستقلال المشروط سنة 1962 هو بالطبيعة إعلان عن نهاية مجلس الثورة والحكومة المؤقتة.
أسئلة الصحافية الجزائرية كانت “مخدومة” على مقاسات الصحراء المغربية وإغلاق الحدود ونقطة اللاعودة ومغازلة الشعب الإسباني، والقول بأن موقف الاعتراف الإسباني بالحكم الذاتي هو موقف فردي لرئيس الحكومة، عنـدها قدمت له مساعدة على شكل سؤال استنكاري حول افتتاح قنصليات بمدن الصحراء المغربية، ليجيبها بأنها فولكلور ديبلوماسي، بل حتى عند جوابه عن الجارة تونس، فـقـد ربط مآسيها بيوم استقبال الانفصالي غالي، في محاولة لشيطنة المغرب، في حين إنه لم يوف هو بتعهداته المالية تجاه تونس ونصب نفسه ممثلا عنها في لقائه بمسؤولين إيطاليين كبار، وتسبب في إقالة وزير الخارجية التونسي في ملف “أميرة بوراوي”.
لقد خصص اللقاء نصيبا وافـرا من الغـزل لدولة قطـر، مقر قناة الجزيرة، ومُـشغلـي أبـواق الجزائر بالخارج كخديجة بنقنة والمعلق الرياضي الدراجي، حيث وصفها بأكبر مستثمر عربي بالجزائر، مما يعني أنها تجاوزت استثمارات الإمارات والسعودية!
ولأن المعني باللقـاء هو المغرب والصحراء المغربية، فـقـد غابت ملفات دولية ساخنة، كالوضع الداخلي في إيران وتركيا والمصالحة الإيرانية/السعودية وزيارة رئيس سوريا إلى دولة الإمارات، ولم تُـذكِّـرْهُ من قامت بدور “الملقن المسرحي” بمساعدات الجزائر لسوريا عقب زلزال شهر فبراير الماضي، بل أرجع فشل وساطة الجزائر والجامعة العربية في الحرب الأوكرانية إلى الجامعة العربية، وأضاف أن الأمر كان سيكون مختلفا لو ذهبت الجزائر وحدها!
من جهة أخرى، فإعلانه عن زيارته باريس في ماي القادم أولا، ثم موسكو “بعد إلحاح” من الرئيس بوتين في الشهـر نفسه، جاء في قالب “القـوي المنتصر” وليس كمن يقدم ثروات بلاده مقابل غنائم سياسية رخيصة، أو كمن ينتظر مجرد مكالمة من ماكرون ليعلن عن عودة السفير إلى باريس، والقبول بنصف الحقيقة في ملف أميـرة بوراوي والقول بإزالة اللبس، فهل سيحمل معه جماجم اللصوص ويعود بجماجم المجاهدين من باريس؟ هل سيوقع على عودة الجزائريين غير المرغوب فيهم؟ وأين وصل السجال السياسي والتاريخي من ديغول إلى ماكرون حول عدم وجود الأمة الجزائرية والذاكرة المشتركة؟ وهل سيشجب احتفال فرنسا بالحرْكيين؟ وبماذا سيبرر لبوتين زيادة تدفق الغاز الجزائري نحو أوروبا في زمن الحرب الأوكرانية والعقوبات الأوروبية؟ أم إن تسهيل تواجد “ميلشيات فاغنر” في الساحل ومالي وطرد فرنسا منها سيشفع له أمام بوتين؟
لقد غابت الموضوعية والحياد في لقاء تبون بالجزيرة، إذ لعب دور الضحية والجلاد معا بمساعدة مواطنته وفوق أرضه، فهل ستحترم الجزيرة شعارها “الرأي والرأي الآخـر” بتنظيم برنامج لقــاء خاص لأحـد المسؤولين المغاربة بالرباط للرد على مغالطات الرئيس الجزائري؟ ومن يُـقنعنـا بأن اللقـاء لم يكن بأوامــر جهات خارجية أكبر من تبــون ومن النظام العسكري الجزائري؟
المصدر: وكالات