منحتني قراءة رواية مُبارك ربيع “طوق اليمام” الإحساس بكوني أمارس لعبة “Puzzle”؛ على امتداد لوحات الرواية يُلاحق السارد وصف مصير ثلاث شخصيات رئيسية: المعلّم دْراعو، والبوعزي والرامي، وهناك شخصيات ثانوية وعابرة تؤثث فضاء الأحداث ولها أدوار بارزة في صنع دلالة الرواية أهمّها: منانة وَورْدية وهاني. وبالانتقال من لوحة إلى أخرى، يتشكّل للقارئ ملمحٌ من ملامح صُورة “البوزل” الذي يهدف السارد رسْمهُ بهدف مُسبقٍ ومعنى وارد عن هذه الشخصية أو تلك؛ فتغدو الكتابة في الرواية (والقراءة أيضا) استرجاعا لوُجوه ومشاعر ونوايا ورغبات تآخ بين الحقيقة والوهْم حينا، وتآلف بين التذكّر واللمْلمة أحيانا أخرى، حين يتعلّق الأمر، مثلا، بتخصيب الحنين وتَحْصينه من فلوات العُمر.
هذا حالُ الرامي الذي لمْ يسأل أبدا لماذا هو هنا، ومَن جاء به إلى هذا المكان، وإلى منزل البوعزي ليكبر في عزّه، ويتعلّم منه كيف يُواجه أهْوال وعواصف البحر، ليأخذ منه بركته ورجاءه. مثلما كان الأمر صدفة في اللقاء الأول بين البوعزي وشيخه الكبير المعلّم دراعو؛ كان البوعزي يعمل بجانب المعلم حدّو الصباغ، بيد أن خطوات تطلّع وفراغ تقوده بقرب الشاطئ، يتملّى المراكب الراسية، وتكون علامة يوم تنقله إلى عالم البحارة والصيد لدى المعلّم.
هكذا، تبني رواية “طوق اليمام” لمبارك ربيع مسار شخصياتها من رحِم لقاءات مفاجأة، وتجعلها مشدودة إلى بعضها بأكثر من آصرة، حتى ولو تعلّق الأمر بحنين حوّلهُ الزمن إلى طيْف، مثلما هو طيف منانة، طيبة الذكر، عطرة الذكرى منانة. كمْ كان المعلّم دراعو يعشق أن يفقد نفسه في عالمها؛ كان مَوْتها حراما، الحياة من بعدها حرام… وليخرج المعلّم دراعو من عالم منانة سيكتبُ اسمها بالسواد الغليظ على مركبه، دون أن يقلّل ذلك من حضور عالمها، في قوة ذكرى وشدّة لوعة وعُمق حُرْقة (ص62).
للْحنين في رواية “طوق اليمام” خلفية أخرى تُعلنها صورة النّجْوى عند البوعزي لما يخبرنا السارد أن شيئا ما يعتمل بقوّة في دواخله، شعور بما يشبه عدم الارتياح إلى فكرة ما (ص74)، على الرغم من أنه عاش لحظات الهول القاسية في العرض والأعماق، أعماق اليمّ وأعماق البشر (ص95). لهذه العلاقة بين البحر وشخصيات الرواية معنى الفَقْد والأفُول، بدونهما لا تبلغ الحكاية ذروتها وهي تلامس هذا الخيط الرفيع بين الحياة والموت في العديد من المشاهد والفصول.
الإقامة في المابيْن، أو النوم والاستيقاظ بطعم المجهول، أو أن يكون المرءُ ابْنا للبحر، كلّها مشاعر لا تضعها شخصيات هذه الرواية موْضع مُساومة أو مقايضة، ولا تتحدث عنها بلغة الأقنعة، بل بكلام فصيح يوره السارد عفو الخاطر. أقتطف من أقواله هذه الفقرة المعبّرة:
“تتجدّد في الخاطر، تعمر لوجدان، تعبر بدفق همّة هذا البوعزي مع شيخه المعلم دراعو، يستعيدها الرامي بدوره حية نابضة بالقوة، صورا وحكايات تثير كلّ ذرة إحساس فيه، كأنه يحياها وليته… لم لا؟ صور تعبر قوية في ذهن الرامي مموهة وفصيحة واضحة” (ص 123).
تبدو النّجْوى عند الرامي في الرواية متعلّقة بحُرقة دفينة في علاقته الصامتة بورْدية (زوجة البوعزي)؛ والحرقة هنا صنوُ التخمين والتمزّق، ولعلّ هذا ما يفسّر اختيار الرامي الغربة والاختفاء فجأة ليخبرنا السارد -فيما بعد- بعودته للبحث عن البوعزي ومعرفة أحواله بعد أكثر من عشرين سنة، رفقة زوجته هاني وولديه. حُرقة الرامي كانت أيضا صنوَ الفزع؛ يفزعه كل صبح أن يأتي المساء، وكلّ مساء أن يسفر الصبح ويجهر… بين صبح ومساء، يمتصه الشاطئ، يحضر كل فترات الدْلالة، كل الحلقات (ص 153). في علاقة الرامي الصامتة بوردية شيء من الشّجن ومن الدفء والمجهول، والمخاطرة أيضا. للصمت دورٌ حاسمٌ في تحديد المصير: الدفع بالرامي إلى الهجرة والاغتراب حين يتوازى الدخول إلى البحر مع الدخول إلى عالم المرأة؛ “هذه تحضنُ وتحمي، تنفّرُ وترْمي… كنفور البحر ورميه، كحمايته وحضنه… وكعالم البحر أيضا لا بُدّ من داخل ودخول… عاشق وصائد…عاشق هنا، صائد هناك… لا فرق… صائد امرأة، عاشق سمكة… (ص155)”. هكذا، يباغت الغياب والاختفاء الرامي نفسه، ويكون مُرغما على أن يترك كلّ شيء ويختفي دون علم أحد، يغادر بلا أثر ولا خبر. والأكيد أن غيابه واغترابهُ يخفي سِرّا ما، فتبدو العديد من مشاهد الرواية مثقلة بتذكّر ضاغط على نفس الرّامي، وهو- في الآن ذاته – مصدر قوّة كانت تقيهِ من يباسِ العيْش وانغلاق الأفق. “ماذا يحملُ في ظاهر قوّته من جوف خور وضعف؟” (ص214)، “يبقى أو يفارق؟ مشهد دكنة واختلاط في الشاطئ، يلتقي بغيام أفق في السماء، بغمق خاطر في الذات… يهرب؟ لا يطيق فراقا، لا يطيق بقاء، هياج خاطر مؤرق، أمواج خاطر يتحرق… ” (ص236)، يتساءلُ السارد في أكثر من لوحة حكائية راصدا هواجس الرامي، سُهادهُ؛ أسْئلتُه -بهذا المعنى- ترْجيعٌ صادق للحظات حزن متصل وفرح مؤجّل، إنها مُداراة لليأس بأيامٍ عادية وأحلامٍ مُجهضة تبالغ بدورها في تعميق الجفوة، بينه وبين ذاته، وبينه وبين الآخرين كذلك.
والظاهر أيضا أن اغتراب الراّمي وعودته إلى البلدة بعد أكثر من عقدين من الزمن كان من أجل حماية أناهُ من هشاشة نفسية تضافرت عندهُ مع إحساس قويّ بالحتمية والقدرية في آن. ثمّة وجهٌ آخر للاغتراب في رواية “طوق اليمام” تمثله خيبة البوعزي وانعزاله في مكان مهجور، مناسب لرجل يائس وخائب. هي إذن “عزلة بعزلة، وتهميش بآخر، ما بين رجل ومكان بِناسه وخيره وشرّه” (ص17). بهذا المعنى، تغدو الرواية رحلة تقود إلى لقاء: عودة الرّامي للقاء معلّمه البوعزي بعد طول غياب.
من هنا، تبدو شخصيات المعلّم دراعو، والبوعزي، والرامي في الرواية مُنْسحِبة من ضجيج العالم، مُديرة ظهرها لكُلّ غواية أو إغراء. هي مثار فتنة وسحر؛ وبيضاء كالثلج. أكاد أقول، بلّورية…
المصدر: وكالات