لم يكد عام 2022 يوشك على الرحيل، حتى فاجأتنا اليابان بتطور من العيار الثقيل، إذ أعلنت قبل أيام تغيير عقيدتها الدفاعية، من الدفاع الخالص إلى الدفاع والهجوم، حيث أعلنت نيتها زيادة الإنفاق العسكري بما يعادل 2% من دخلها القومي، بما يشمل الحصول على أسلحة دفاعية متطورة، وصواريخ بعيدة المدى، من ضمنها صواريخ توماهوك الأميركية، إضافة إلى منظومة من الأسلحة الهجومية لاستخدامها في الدفاع عن نفسها أمام الخطر المتمثل في الصين وكوريا الشمالية، بل تمكينها من شن ضربة استباقية لو احتاج الأمر إلى ذلك. وفي هذا التقرير سنحاول مناقشة الأسباب والأبعاد المختلفة التي أدت إلى اتخاذ هذا القرار، والنتائج المترتبة عليه إقليمياً ودولياً.
دلالة
تنطوي استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان، وخطط الدفاع ذات الصلة، على دلالة بأنه ستكون هناك جهود تحديث عسكرية كبيرة في مواجهة التهديدات المتصورة في شمال شرق آسيا، وخصوصاً الصين.
وتقول الباحثة المتخصصة في الدراسات اليابانية بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، الكاتبة شيلا سميث، إن حكومة رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، وافقت في منتصف ديسمبر على التوسع الأكثر طموحاً وسرعة للقوة العسكرية في اليابان، منذ إنشاء قوات الدفاع الذاتي في البلاد في عام 1954. والهدف ذو شقين هما: تعزيز قدرة اليابان على ردع العدوان، وضمان استعداد قوات الدفاع الذاتي للقتال في حالة اندلاع صراع.
ووعد كيشيدا بزيادة حصة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للأمن القومي إلى 2%، ارتفاعاً من الحد الأقصى التقليدي البالغ 1% في العقود الأربعة الماضية.
ثلاث وثائق
وتم الإعلان عن ثلاث وثائق ستواجه توسع الجيش، تتعلق الأولى باستراتيجية الأمن القومي الجديدة، وتعرض تقييم طوكيو للتهديدات المصطفة ضدها، وتحدد الأدوات الدبلوماسية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والعسكرية التي ستستخدمها لمعالجتها. وهذه الاستراتيجية، وهي الثانية فقط في تاريخ اليابان بعد الحرب، تشير إلى الصين وكوريا الشمالية وروسيا كمصدر قلق خاص.
والوثيقة الثانية، وهي عن خطة الدفاع الوطني العشرية، وتحدد التحسينات العسكرية المطلوبة لقوات الدفاع الذاتي للقيام بعملها. وقائمة التحسينات الدفاعية شاملة، حيث تدعو الخطة إلى قيادة عملياتية متكاملة جديدة للقوات الثلاث لقوات الدفاع الذاتي، وقدرات فضائية وسيبرانية موسعة، واكتساب قدرات هجومية بعيدة المدى.
وتحدد الوثيقة الثالثة، وهي خطة مشتريات مدتها خمس سنوات، أولويات تنفيذ خطة الدفاع. وسيتم إنفاق ما يقدر بنحو 320 مليار دولار في هذه الفترة الأولية، التي تبدأ في السنة المالية المقبلة، وتستمر حتى عام 2027.
وتقول سميث إن أبرز جوانب الاستراتيجية الأمنية الجديدة لليابان تتمثل في نقاط عدة:
أولاً، والأكثر وضوحاً، هو إدخال خيار الضربة التقليدية بعيدة المدى، فمنذ سنوات عدة، تعمل اليابان على تطوير ما تسميه قدرتها على «المواجهة»، أو القدرة على الرد على التهديدات في البحر والمجال الجوي المحيط بالأرخبيل الياباني. فالصواريخ التي استخدمتها للدفاعات الساحلية لها مدى محدود، نحو 200 كيلومتر، لكن صواريخ جو-جو الجديدة المشتراة من النرويج، سيكون مداها أكثر من 480 كيلومتراً. وستتطلع اليابان الآن إلى إدخال صواريخ يبلغ مداها 1610 كيلومترات.
قدرات جديدة
ومن المحتمل أن تكون هذه صواريخ كروز (توماهوك) أميركية الصنع، حتى تتمكن اليابان من بناء صواريخ جديدة بمفردها. وستسمح هذه القدرات الجديدة لليابان بضرب أهداف في عمق آسيا القارية، وتهدف إلى جعل المعتدين المحتملين يعيدون التفكير قبل مهاجمة اليابان.
وتؤكد الاستراتيجية الجديدة أيضاً على تطوير التكنولوجيا المحلية في اليابان. وستشمل حصة الميزانية الوطنية الممنوحة للابتكار لأول مرة التقنيات اللازمة لدفاعات البلاد، وستكون المنافسة الاستراتيجية أحد محركات الاستثمار الوطني في البحث والتطوير. وستتطلع وزارة الدفاع أيضاً إلى دعم زيادة الاستثمار في تطوير الأسلحة، سواء في الإنتاج المحلي أو من خلال الاتحادات الدولية. وسيكون تطوير الصواريخ أولوية.
اهتمام جديد
وأخيراً، أولى مخططو الدفاع اهتماماً جدياً لقدرة قوات الدفاع الذاتي على القتال كقوة متماسكة، والحفاظ على العمليات على مدار أزمة أو صراع. وتشمل الأولويات تطوير التخطيط التشغيلي المتكامل، بما في ذلك قيادة مشتركة جديدة، والاستثمار في قدرة القوات على الصمود، إذ إن جعل المطارات والموانئ المدنية في متناول قوات الدفاع الذاتي، بما في ذلك أحدث منصاتها مثل الطائرة المقاتلة (إف 35)، وكذلك المدمرات، سيقطع شوطاً طويلاً لضمان الاستعداد. كما غرست الحرب في أوكرانيا إحساساً بالإلحاح في اليابان، عندما يتعلق الأمر بتأمين المتطلبات اللوجستية الأساسية مثل الوقود والذخيرة وغيرهما من الإمدادات الحيوية.
قفزة
وتتساءل سميث لماذا تجري اليابان هذه التغييرات؟ وتقول إن هذه القفزة في تسليح قوات الدفاع الذاتي هي نتاج عوامل عدة، أكثرها وضوحاً هو الوجود المتزايد للجيوش الأجنبية في اليابان وحولها. وتعبر الصواريخ الكورية الشمالية المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان وأراضيها بشكل متكرر ودون سابق إنذار. ويعمل الجيش الصيني بانتظام بالقرب من المياه والمجال الجوي الياباني. ويجتذب النزاع الإقليمي بين اليابان والصين حول جزر سينكاكو/ دياويو في بحر الصين الشرقي قدراً كبيراً من اهتمام خفر السواحل، واهتمام الجيش. وتزايدت هذه التهديدات الواضحة منذ نهاية الحرب الباردة، ولطالما دافع مخططو الدفاع عن العديد من التحسينات الواردة في الخطة الجديدة.
وفي الوقت نفسه، تتسارع وتيرة التغير التكنولوجي بين الجيوش في المنطقة، وتراجعت اليابان عن الركب. والواقع أن ترسانات الصواريخ المتنامية في شمال شرق آسيا، والتي أصبحت الآن أسرع وأكثر دقة ويصعب اكتشافها، كانت سبباً في تعميق شعور اليابان بالضعف. وأكدت طوكيو لبعض الوقت على الدفاعات الصاروخية البالستية للتعامل مع هذا الانتشار، لكن الكمية الهائلة من الصواريخ في المنطقة تجعل من غير الواقعي الاعتماد على تلك الدفاعات وحدها.
قدرات غير متماثلة
علاوة على ذلك، أدت تقنية صواريخ الهايبرسونيك التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، إلى تفاقم الوضع من خلال جعل الصواريخ القادمة غير قابلة للكشف فعلياً إلا بعد فوات الأوان. كما تهدد القدرات غير المتماثلة الجديدة التي طورتها الصين بتقويض قدرة الولايات المتحدة على مساعدة اليابان.
وترى سميث أن التغيير قادم بسرعة وقوة في جميع أنحاء العالم. والرسالة التي يتم إرسالها من طوكيو هي أن اليابان ستستعد للتحرك والتصرف دون تردد، إذا احتاجت إلى الدفاع عن نفسها.
• ترسانات الصواريخ المتنامية في شمال شرق آسيا، والتي أصبحت الآن أسرع وأكثر دقة ويصعب اكتشافها، كانت سبباً في تعميق شعور اليابان بالضعف.