تلقّى الفنان اللبناني مارسيل خليفة شارة انضمامه لأكاديمية المملكة المغربية عضوا شرفيا، بعد خطاب ترحيب نظر في مساره وعطائه وإسهامه في تاريخ الموسيقى والالتزام الإنساني، ألقاه المفكر والأكاديمي المغربي محمد نور الدين أفاية، عضو أكاديمية المملكة.
مارسيل الذي سبق أن وشحه الملك محمد السادس بوسام الكفاءة الفكرية، ذكر أفاية أن أكاديمية المملكة تستقبله عضوا لدواعٍ “في طليعتها أن من يتحدث عن الموسيقى العربية المعاصرة، أغنية وتأليفًا أوركستراليا وانتشارًا جماهيريًا، يجد نفسه أمام اسم مارسيل خليفة وتجربتِه الإبداعية بوصفها إحدى اللحظات البارزة في مسار التلحين الغنائي والتفكير الموسيقي العربي”، حيث فرض “أسلوبًا مُميَّزا في الإصرار على استنهاض ما ملكه المرء من قدرات على الاستمرار في ‘الحُلم بالموسيقى’، كما يقول”، هي “خمسون سنة من الاستثمار الوجودي والإبداعي في الموسيقى وفي الشعر في سياقات عالم متوتر، وتهديدات متنامية للحياة، والحرية، والإبداع، والذوق (…) ومعاندة هذه التهديدات بالعمل اللا متوقف على اجتراح مُمكنات تعبئة ما يوفره العمل الموسيقي من وسائل لخلق آفاق متجددة لصيانة الإنساني في الإنسان، وما يُتيحه من فرص للحلم والمحبة والأمل”.
غزارة إبداع
قال محمد نور الدين أفاية إن مارسيل خليفة قد انطلق من “أغنية مُلتزمة انبثقت من معمعة حروب غير متوقفة إلى الإنصات لهواجس الذات” في “حالة توتر دائم لا ينفك يُنتِج قلقًا مبدعًا”، فـ”كتَب الأغنية وأدَّاها بصوته، كما دعا الآخرين إلى أدائها، وألّف الموسيقى الأوركسترالية وقدَّمها في أكبر المسارح العالمية مع كبريات الفرق الفيلارمونية”.
وتحدث أفاية عن مارسيل الذي “أتْعَبتْه السياسة، كما عُنف الحروب العدوانية على المنطقة العربية”، والذي “شهد سقوط السرديات الكُبرى وزيف الشعارات الرنَّانة”؛ وتمسّك بإمكان الموسيقى في أن تكون “فعل مقاومة”، منتقلا “من العود الواحد، الذي صدَح بصوته مخاطبا الجماهير الواسعة، إلى نَقَرات أعواد مُتعددة، وإلى أصوات الكورال مع الأوركسترا الكبيرة”، ووضَع “كل هذا الذي أنجز من وحي مخزونات المُتخيل الجمعي العربي، ومن ينابيع الموسيقى العربية بروافدها المتنوعة، ولكن دائما من منطلق النزوع إلى التجديد واجتراح آفاق مغايرة، وداخل الحرص على الجهر بقيم الحرية، والمعرفة، والحياة، والمحبة، والجمال”.
ومع عضوها الجديد، تستقبل أكاديمية المملكة، وفق كلمة أفاية: “مُبدعًا ومؤلفًا غزيرَ العطاء، أصيل الأسلوب في الكتابة والتأليف. فرَض نمطه اللحني والموسيقي، وطبَع به الذائقة العربية طيلة نصف قرن. غنَّت له الفئات الاجتماعية كافة، حيث إن أغنيته الأولى ‘وعود من العاصفة’، التي أطلقها في أواسط سبعينيات القرن الماضي (…) حمَلَتها حناجر الشباب في الجامعات، والشوارع، والتظاهرات، والأمسيات، والمسارح، والساحات، والمعاهد. تحوَّلت قصائد محمود درويش ‘أحن إلى خبز أمي’، و’رِتا’، و’جواز السفر’، وغيرها إلى أغنيات حرَّكت مشاعر ومُخَيِّلات ملايين من الناس على طول الجغرافيا العربية وفي أوساط العرب في المهاجر”، كما أن “ارتباطه الخاص بقصائد درويش لم يمنعه من التفاعل الموسيقي مع عدد من الشعراء العرب الكبار، كعز الدين المناصرة، وسميح القاسم، صاحب ‘مُنتصب القامة أمشي’، وخليل حاوي، وشوقي بزيع، وطلال حيدر، إلى البحريني قاسم حداد الذي من وحي شعره نجز عملَه اللافت ‘مجنون ليلى’.
حياة موسيقية
خاطب أفاية العضو الجديد بأكاديمية المملكة المغربية مارسيل خليفة، قائلا: “عبَّرْتَ منذ طفولتك عن نزوع خاص نحو التمرد قياسا إلى أقرانك؛ والخروج عمَّا تسميه المألوف اليوميّ. تَأثَّرْتَ، منذ صباك، بأصوات الغجر حين كانوا يَنْصِبون خيامَهم على الجسر العتيق بالقرب من ضَيْعتكم، وتفاعَلْتَ بقوة مع التراتيل الكنَسِيّة؛ إذ أصبحتَ مع الأيام المُنشِدَ الأول في جوقة الكنيسة لأنك وجدتَ في الترانيم المُكوَّنَة من أربعة أصوات مُتعةً حقيقية. ولعل أمَّك ماتيلدا أول من انتبه إلى ولَعِك بالموسيقى بعد أن عايَنَتْ، بالملاحظة اليومية، استعمالك لطنجرات وأواني المطبخ كأدوات للعزف والإيقاع. واعترفتَ أنك ‘تعَلَّمت القدَّ، والمُوشحَ، والدُّور، والطقطوقة، والبشرف، والسماعيّ، واللونغا، و(هي أنماط موسيقية شعبية)، تعلمتَ كل ذلك من أُمِّك’. ولقد دفعها ميلك الجارف إلى الموسيقى إلى إقناع الوالد بضرورة شراء آلة عود، حتى ولو اقتضى الأمر اقتراض مبلغه، وهو ما التزم به وأتى به من دمشق. وكانت ماتيلدا بَوْصَلتَك ومنارَتك، لكنها رحلت قبل أن تبلغ الأربعين؛ إذ لم تسعفها الحياة في أن تسمع أو ترى ما كنت قادرا على إبداعه موسيقيا وتوفيت (…) قليل من الناس من يعرف أن أغنية ‘أحِنُّ إلى خبز أمي’ تتماهى فيها مع ما دوَّنه محمود درويش من ارتباط وجودي بالأم، ومن حرمان منها بسبب الوحشية الصهيونية، وأنك حين تُغَنيها تستحضر صور ماتيلدا في كل مرة ينتابك شعورٌ بالحنين إلى دفئِها وسخائِها”.
وتابع ناظرُ المسار: “تزوَّدْتَ بما يلزم من مقومات التكوين في المعهد الموسيقي، لكن تأثير الأستاذ “فريد غُصن” عليك كان عظيمًا. وهو الفنان الآتي من مصر بثقافته الموسيقية الواسعة (…) في السنة الأخيرة في معهد الموسيقى في بيروت، كتبتَ مُوشحًا لم يسعفك في ضمان نجاحك فقط، بل نال تزكية لافتة جاءت من أحد كبار أساتذة الموسيقى في لبنان، الموسيقار الراحل توفيق الباشا (…) بالإضافة إلى الأدوار الكبرى في التأطير والتوجيه والكتابة لكل من فريد غصن، وتوفيق الباشا، وحليم الرومي، الذي كان قد تخرَّج هو أيضا من معهد الموسيقى العربية في القاهرة سنة 1939، وقبلهم فيلمون وهبي، كبرت مع الانفتاحات اللحنية والتوزيعية اللافتة التي أنجزها الأخوان عاصي ومنصور رحباني، حيث أنتجا أعمالا خالدة مُحمَّلة من طرف أصفى صوت وأقواه وأعذبه جسَّدته فيروز (…) وجَدْتَ نفسك وأنت في المعهد، ومن دون مقدمات، في مَعْمَعة تجربة استثنائية ضمن فرقة عبد الحليم كركلا حيث تحوَّل اللقاء به إلى التزام مُسترسَل (…) الَّفْتَ لفرقة كركلا مجموعة من الأعمال الموسيقية كـ’حلم ليلة صيف’، و’الأندلس المجد الضائع’، و’أليسار ملكة قرطاج’، وغيرها. وهي أعمال قُدِمت بمدن نيويورك، وواشنطن، ولندن، والشانزليزي بباريس، وغيرها من العواصم الفنية الكبرى”.
ورصد أفاية ما طبع مارسيل خليفة من نزوع دائم إلى “التجدُّد والاستشراف الموسيقي”، مع مبادرات من بين أوجهها التزامه دائم مع شباب “معهد إدوارد سعيد” في فلسطين، وتأسيس فرقة “الميادين” التي ألَّف لها “عددا كبيرا من الأغاني”، وفتح فيها المجال “لأصوات غنائية استثنائية مثل صوت أميمة الخليل، وعازفين على الآلات، كشربل روحانا على العود، وإبراهيم معلوف على الساكسفون، وعشرات الشباب الذين اشتغلوا مع مارسيل وذهبوا بعيدا بعد ذلك اعتمادا على مواهبهم وقدراتهم الإبداعية، ومنهم ابناك رامي وبشار”.
“الموسيقا”
قرأ محمد نور الدين أفاية مسار التأليف الموسيقي والعزف عند مارسيل خليفة، قائلا: “من “وعود العاصفة” إلى اليوم مع “جدارية درويش” ترحل داخل أنواع التأليف الموسيقي المختلفة، من المعالجة اللَّحنية الفردية بالعود، والمُقدمات الجاذبة في مَوْسَقة قصائد شهيرة لمحمود درويش، وخليل حاوي وغيرها من الأعمال المغناة، لم تتوقف عن الاشتغال للارتقاء بالمكانة الخاصة التي توليها لآلة العود”.
وواصل: “ما أنْجَزْه في ألبوم “جدل” يُعدُّ كتابةً غير مسبوقة، حسب أكثر المختصين في هذه الآلة، حيث ضمَّن محاورةً موسيقية بين العود الكلاسيكي (…) والأسلوب الجديد للعود (…) وصيَّر الواحدَ كثرة، والعُودَ أعوادًا، وأدخل التأليف الموسيقي للعود مغامرة الأنغام المُتزامنة”.
وتابع القارئ: “ما يزال عشق آلة العود بعد “جدل” يُحرك ما يسميه مارسيل الحاجة إلى ‘كتابة جديدة لهذه الآلة’. وهذا ما دفعه إلى نشر كتاب ‘عود’ سنة 1997 (…) بهدف وضع ‘مناهج جديدة’، وما سماه في مقدمة المُؤلَّف الحاجة إلى ‘تخطي الأطر التقليدية واستنباط أفكار جديدة تختلف في الشكل والمضمون عن لغة البشارف، والسماعيات واللونغات الموروثة’. وهكذا كتب للعود الثنائي، والثلاثي، والرُّباعي، وأدخَل على العود آلات البيانو، والباص، والرِّق، وتشللو، والقيثارة، والكلارينيت، وغيرها من الآلات. وكانت هذه التجارب محطات حاسمة في العمل، والكتابة، والتفاعل، سمَحَت بفتح أفق جديد للتأليف الموسيقي، واجتراح مسار مختلف في التوقيع على أعمال أوركسترالية منها ‘كونشرتو الأندلس’ (2000)”، حيث صاغ “تموُجات الشعور بالحنين إلى زمن مضى بأفراحه وتعبيراته، وإلى أندلس ما تزال تدعو إلى استذكارها بتنويعات موسيقية تتراوح بين الزهو والحُزن؛ ومَزَج ما بين سِحر الشرق، كما عبَّرَتْ عنه آلة العود وهي، حسب وصف صديق مارسيل خليفة عبد الإله بلقزيز، ‘تَتسلْطَن’ وسط الآلات، وركَّب بين العالم النَغمي لهذه الآلة وبين ما أبدَعَته أساليب الكتابة السمفونية”.
ويقدر أفاية أن أكثر الأعمال السمفونية للعضو الجديد بالأكاديمية المغربية تتميز بـ”تزاوج دائم، وتناغم ظاهر بين روح النوتة الشرقية والمُوَشح، مشفوعةً برقَّة مُتوسِطية دافئة، وبين الكتابة الأوركسترالية”، سواء في “كونشرتو الأندلس”، أو “الكونشرتو العربي”، أو “العائد”، أو “تهاليل الشرق”، إلى ما “ألّفْه من أعمال أوركسترالية في سياق ما نشهده من إبادة للفلسطينيين تحت عنوان كبير لم تتردد في تسميته: ‘صرخةٌ في وجه عالمٍ بلا ضمير’”.
وينبه نور الدين أفاية إلى الرابط الخاص لمارسيل خليفة مع المغرب منذ “اكتشفه في زيارته الأولى سنة 1990″، فـ”منذ ذلك الوقت لا يتردد في الاستجابة لدعوات المغاربة، والجهر بتعلُّقه بالمغرب، حيث تَنقَّلَ في أكثر مُدنه وجهاته؛ بل وسبق أن أعلن أنه يتمنى أن يكون ‘مغربيًا’، من أجل كتابة موسيقى من التراث المغربي. قال ذلك منذ زمان وردده أكثر من مرة، ولكنه يعِد أنه ‘سيفعلها يوما ما’، وذلك كما يعترف، ‘للاستفادة من تجارب وتنوع المغرب؛ لأنه بلدُ تنوُّعِ جميل لا أجد مثلَه في بلد آخر’، وهو تنوع ‘ليس فقط في الألوان الموسيقية، بل في كل شيء؛ ألوان الحياة والثياب… بين الأمازيغي والإفريقي والأندلسي وغير ذلك’”.
المصدر: وكالات
