بقلم د. يعقوب يوسف الغنيم
هذا موضوع يختلف عن الموضوعات التي جرى الحديث عنها فيما مضى من فصول هذه المقالات، ذلك لأنه يضم مجموعة قد لا تكون متجانسة في النوع، ولكنها تتماثل في أنها تتعلق بوطننا العزيز: الكويت.
وهذا التعلق يخص فيما يخص التاريخ، والجغرافيا، والناس الذين يعيشون على أرض هذا الوطن قديما وحديثا. ومن المعروف أن الكويت قد نشأت بنظامها الحكومي الذي نشهده اليوم منذ سنة 1613م، وبالطبع فإن شكل الدولة في البداية كان مختلفا حتى جرى عليه التغيير إلى الأفضل بمرور الزمن وازدياد عدد السكان، واتصال البلاد بغيرها عن طريق التجارة والرحلات البحرية والبرية المتنوعة.
ومن المعروف أن الكويت باعتبارها أرضا ملائمة للسكن كانت آهلة بالسكان، عامرة بالناس منذ أمد بعيد، وما حدث منذ سنة 1613م إنما كان متمثلا في اختيار نظام الحكم الذي بدأ بالشيخ صباح الأول. أما الوضع القديم للبلاد فتدلنا عليه الآثار الكثيرة التي عثر عليها في جزيرتي فيلكا، والعكاز (الجزيرة الصغيرة)، ومن المعروف أيضا أن كثيرا من الأماكن الكويتية كان معروفا من قديم الزمان بأسمائها الحالية أو مع تحريف يسير، وقد مثلنا لذلك فيما مضى ببرقان وكاظمة ووارة وغيرها من الأماكن.
ولقد حدثت أحداث ذكرناها في مواضع أخرى تدل على السكان وطبيعتهم بل وأنسابهم، واستشهدنا لذلك بكتب التاريخ وأشعار الشعراء القدماء، غير أن من أهم ما نذكره عن كاظمة بالذات هو قول الصحابي الجليل سعد بن إياس: «سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أرعى إبلا لأهلي بكاظمة»، وبعد هذا الذي تقدم نبدأ بعرض ما أردنا ذكره هنا وهو كما يلي:
أولا: إذا أردنا الحديث عن علاقات الكويت القديمة مع غيرها من الدول، وجدنا أنها دولة لم تكن منقطعة عن الاتصال بالعالم مع صعوبة ذلك في أيام البلاد الأولى وهذه نماذج لبعض تلك الاتصالات والعلاقات:
1- تذكر الوثائق التي تم العثور عليها ضمن الأرشيف الفرنسي أن فرنسا لم تكن بعيدة عن الكويت فمنذ سنة 1770م، وذكر الكويت يرد فيها، ولكنه ازداد في سنة 1896م وما بعدها، فاعتبارا من هذه السنة توالت المعلومات عن الكويت، وكان بعضها قد جاء عن طريق قناصل فرنسا في الدول المجاورة، وبعضها الآخر عن طريق الضباط من قادة السفن الفرنسية التي كانت تمر بالخليج، وهذه المعلومات على قلتها لها أهمية كبرى من ناحية أنها تعنى بوجهة نظر أخرى غير التي نراها في الوثائق البريطانية وأحيانا تكون مكملة لها.
في عهد الشيخ مبارك الصباح ازداد الحديث عن الكويت في هذه الوثائق. وقد ذكر أن السفينة الفرنسية انفرنت قد زارت الكويت وكذلك السفينة كاتينيه.
وكانت السفينة (دياموند) قد وصلت إلى الكويت قبل هذا الوقت بمدة وبالتحديد في سنة 1867م. وليس هذا كل شيء في مسالة المعلومات التي وردت عن الكويت في الوثائق الفرنسية ولكننا هنا نركز على فترة حكم الشيخ مبارك الذي يبدو أنه كان على صلة وثيقة بعدد من المسؤولين الفرنسيين العاملين في السفارات أو القنصليات الفرنسية في دول الجوار، وكان يلتقيهم ويستمع إلى أفكارهم.
ومن ذلك أنه في خريف سنة 1898م أبلغ الإنجليز عن واقع إجراء الفرنسيين مفاوضات حول إبرام اتفاقية سياسية معه، وربما كان هذا من الأسباب التي دعت البريطانيين إلى التعجيل بإبرام اتفاقهم مع الكويت حتى يتمكنوا من إغلاق الطريق أمام منافسيهم الفرنسيين.
كان المستشرق الفرنسي انطوان جوجيه من أهم الدلائل على علاقة الفرنسيين بالشيخ مبارك الصباح وكان هذا الرجل إلى جانب اهتماماته الثقافية مختصا ببيع وتصدير السلاح، وكان حريصا على التعامل مع المناطق المتعطشة إلى بضاعته. ولكنه كان – أيضا – عميلا للاستخبارات الفرنسية ومراسلا لسلطاتها.
ومن أجل السلاح كانت له علاقة بالشيخ مبارك الذي يعطي السلاح أهمية كبيرة لما له من أثر في تقوية نفوذه، ولأنه مصدر مالي مفيد للدولة آنذاك.
لقد وصل جوجيه إلى الكويت في سنة 1904م، وكان يلبس اللباس العربي حتى لا يلفت إليه الأنظار، وكان الاسم الذي أطلقه على نفسه في هذه الفترة هو: عبدالله المغربي، وكان الشيخ مبارك يعرف جيدا حقيقة هذا الرجل ولكنه استضافه في قصره لمدة 3 أشهر، بعيدا عن أعين الإنجليز ومخابراتهم، وكان موضع إفادة للشيخ مبارك لا في موضوع السلاح فحسب، بل في المعلومات التي يملكها عن الدول الكبرى المتصارعة على المنطقة، مما أتاح الفرصة للشيخ مبارك لاكتشاف كثير من الأمور التي لم يكن ليراها إلا عن طريق هذا الرجل، وكانت سببا في اتخاذه للسلوك السياسي الذي نفعه ونفع الكويت كثيرا، وفي المقابل فإن السفن الكويتية كانت تساعد جوجيه في نقل الأسلحة بناء على موافقة الشيخ، وهي عملية وان كانت صعبة للغاية إلا أنها تدر ربحا جيدا لأصحاب السفن.
كان جوجيه ممتنا للشيخ مبارك وكان يكتب مقالات عدة يمتدحه فيها، ومن ذلك قوله عنه بأنه: «رجل يقر بالجميل، وأنه واسع الاطلاع، ولا يدفع للبريطانيين أكثر مما هو ضروري للخدمات التي يؤدونها، كما أن رغبته في المحافظة على الاستقلال كانت وراء استعداده الدائم للوقوف أمام المؤامرات الغادرة التي تحيط به».
وكان جوجيه – أيضا – حريصا على أن يقدم خدمة للشيخ مبارك الصباح، وذلك أنه أرسل إلى الشيخ مبارك يبلغه أن بإمكانه إجراء مساعيه لكي تتوسط فرنسا وسورية في حل الخلاف القائم مع الدولة العثمانية وعلى الأخص بعد توقيع الاتفاق مع بريطانيا.
وكان هذا العرض تعبيرا عن الرغبة العثمانية قبل الرغبة الكويتية، وقد رد الشيخ على رسالة جوجيه بأنه كان معينا قويا للدولة العثمانية يلبي رغباتها ويساعدها، ومن ضمن ما قاله في الرد: «وكلما حدث إضراب أو تمرد في المنطقة توجه على رأس قوة وعلى نفقته الخاصة لإخماده، فكان الهدوء والأمن يسودان هذه الأماكن، إلى حد تخفيض القوة العسكرية العثمانية فيها إلى كتيبة واحدة، ولكنها الآن تبلغ 6 كتائب.. إلى آخر رسالته التي عبر فيها بوضوح عن أن طلب المصالحة صادر عن العثمانيين لا منه هو، وأنه يبغي أن يقفوا معه الموقف الذي تقتضيه أعماله التي قام بها من أجلهم».
هذه صورة من الصور التي مرت بالكويت في زمن الشيخ مبارك الصباح، وتبدو فيها إشارة إلى العلاقة التي كانت قائمة بصورة غير مباشرة مع فرنسا.
2- من أقوى العلاقات وأقدمها بين الدول: علاقة الكويت بالهند. وكانت علاقة ودية كونت صداقات بين تجار الكويت وتجار الهند ودفعت عددا من أبناء الكويت إلى تكوين جالية تعيش هناك أسست لها مكاتب تجارية تمد من خلالها الوطن بما يحتاج إليه من مواد، وتسهل على التجار الحصول على ما يشاءون من بضائع على اختلاف أنواعها.
وقد كانت من أقدم الوثائق الدالة على هذه الصلة التجارية، تلك الوثيقة التي نشرها مركز البحوث والدراسات الكويتية قريبا وهي تنص على أن محمد بن حسين العسعوسي قد حمل في سفينته (البغلة) المسماة فتح المبارك مبلغا وقدره أربعمائة روبية لحساب خالد الخضير تم تسليمها في بندر المليبار إلى مشعان الخضير لشراء بضائع من هناك، ونقل جانبا من ذلك إلى دار السلام على الساحل الشرقي لأفريقيا، وهذه هي عاصمة تنزانيا في هذه الأيام.
كان تاريخ الوثيقة في اليوم السادس عشر من شهر ديسمبر لسنة 1861م. ولا شك في أن طبيعة الرحلة التي قادها النوخذة العسعوسي تدل على أنها ليست الرحلة الأولى من نوعها وبالتالي فإن العلاقة التجارية بين الكويت والهند لا بد أن تكون أقدم من ذلك بكثير.
وكانت الكويت تستورد من الهند أنواعا متعددة من البضائع فيستهلك بعضها ويباع – وهو الأكثر – على المناطق المجاورة مكونا سوقا جيدة تمتعت الكويت كثيرا بمزاياها ومردودها المادي. وكانت في ذلك الوقت تصدر إلى الهند أنواعا من البضائع كان أشهرها الخيل والتمور واللآلئ.
تصل السفن الشراعية إلى الهند في رحلة سنوية ثابتة لها توقيت معين يرتبط مع حال الطقس هناك لضمان هدوء البحر، وتجنب مواسم الأمطار وكانت رحلة (السفر) المعروفة جيدا لدى الكويتيين تتم بقيام أعداد كبيرة من هذه السفن المصنوعة بأيدي الصناع الكويتيين بالتحرك بحرا، وكانت هذه فرصة لإتاحة مجال العمل للكويتيين ولكثير من سكان المناطق المجاورة الذين يفتح لهم باب الأمل بالرزق عن طريق الانضمام إلى البحارة الكويتيين العاملين على هذه السفن الشراعية. وكانت هذه السفن وسيلة كبرى من وسائل الاتصال الكويتي الهندي، ولا يزال ذكرها عاطرا ومسجلا يمكن الرجوع إليه في مظانه.
وكان الشيخ مبارك الصباح يوالي الاتصال مع العاملين في التجارة هناك، ويدعمهم ماليا ومعنويا لأنه يعرف مدى الفائدة التي تعود على البلاد نتيجة لهذا التحرك الإنساني العجيب الذي تنم عنه النتائج التجارية الباهرة، وقد استمر اهتمام الكويتيين بالاتصال مع الهند طويلا، وأدل شيء على ذلك أن الشيخ أحمد الجابر الصباح قد قام برحلة إلى الهند في سنة 1947م كان فيها موضع ترحيب من الجهات الحكومية والشعبية، ومن الجالية الكويتية هناك، وغيرها من الجاليات العربية.
أما الشيخ عبدالله السالم الصباح فقد كان يحلو له أن يقضي فترة من كل سنة في بومباي يتمتع فيها بالجو المعتدل الذي يختار موعد السفر فيه، ويرتاح من الأعباء الرسمية المفروضة على مثله من الرؤساء ولم ينقطع عن القيام بهذه الرحلة السنوية إلا بعد أن ساءت صحته وأصبح سفره صعبا.
وكان الشيخ عبدالله الجابر الصباح من محبي بومباي وله بناية كبيرة سماها الجابرية يقيم فيها كلما عنَّ له السفر إلى ذلك البلد الصديق. وهو – أيضا – كان كثير الترحال إلى هناك.
وحتى يومنا هذا فإننا نرى حركة السفر من قبل الكويتيين لا تنقطع إلى بومباي، وحركة التجارة تزيد ولا تنقص لأنها قد وضعت على أسس سليمة، ولأن لها تاريخا قديما أسهم آباء الكويتيين بكتابته بفضل جهودهم ودأبهم.
بعد ذلك لا ننسى الصلات الثقافية التي ترتبط الكويت معها بالهند، فمن هذا الجانب أنشأت الكويت مدرسة للجالية الكويتية والعربية في بومباي وكانت منتدى للكويتيين وللعرب الذين يعيشون هناك وذلك في سنة 1952م.
ولا ننسى – أيضا – المنتدى العربي الإسلامي الذي كان رئيسه الكويتي الشيخ عبداللطيف العبدالرزاق. ولا الآثار الاجتماعية التي نقلها البحارة الكويتيون إلى وطنهم مثل أنواع المآكل، والأثاث، وبعض الكلمات من اللغة الهندية والبخور والعطور مما اشتهرت به الهند وغير ذلك.
أما أهم الآثار الثقافية فهو الإنتاج الفني الغزير الذي أمدنا به الشاعر الكويتي الفنان عبدالله الفرج الذي عاش في الهند ودرس بها واستفاد من موسيقاها وانطبع ذلك على أغانيه التي تأثر بها الكثيرون في الكويت وفي الخليج، وفي الهند طبع له ديوانه الشعري الذي لم نكن لنحصل عليه لولا توافر الطباعة في تلك البلاد آنذاك.
يقول المثل الكويتي: الهند هندك إذا قل ما عندك. هي بلد الإنتاج والتجارة والصداقة.
3- قد يعجب المرء حين يرى أن الكويت لها مكان بارز في الأرشيف الوثائقي الروسي، وبخاصة عندما يرى أن الزمن الذي تشير إليه هذه الوثائق بعيد جدا عن هذه الأيام.
تكشفت هذه الوثائق عن علاقات قديمة بدأت في عهد الشيخ مبارك الصباح. وذلك حين كانت روسيا تحاول كسب موقع لها في منطقة الخليج وما حولها وكان التنافس بينها وبين بريطانيا قويا على هذه المسألة. وقد استفاد الشيخ مبارك من هذا الوضع المبني على التشاحن والتنافس بين الدولتين العظميين، وكان ماهرا جدا في اصطياد الفرص التي أتاحها له هذا الصراع، فصارت أعماله في هذا المجال تصب كلها في مصلحة الكويت وتعود عليها أمنا واستقرارا.
صحيح أن الشيخ مبارك الصباح قد عقد اتفاقية مع بريطانيا في سنة 1899م. تكفل بريطانيا بموجبها حماية الكويت. ولكن الشيخ لا يكتفي بذلك لأنه يريد أن يحيط وطنه بكافة الضمانات الممكنة التي تكفل الاطمئنان التام من جهة، ولا تتيح لدولة من الدول المتعاقدة معه مثل بريطانيا فرصة الاسترخاء وعدم الالتزام الجاد بتعهداتها.
إن الشيخ مبارك الصباح يحتاج دائما إلى أن يشعر ويشعر معه شعبه بأنه إن لم يجد العون من بريطانيا فإنه سوف يجده من جهة أخرى مماثلة بل ومنافسة، فكانت أمامه فرصة الاتصال بروسيا.
لذلك فإنه في شهر أبريل لسنة 1901م أرسل رسالة شفهية إلى (أوسينكو) الذي كان قنصلا لروسيا في البصرة وذلك عن طريق المندوب الذي أرسله القنصل الروسي إلى الكويت. وكان مراد الشيخ مبارك أن يجعل هذه الصلة قوية منذ بدايتها وأن يجعل الروس في موقع يحمدون له موقفه منهم، فقد طلب دعم هؤلاء له وهو يتصدى للأخطار، فهو يرى أن وطنه يحتاج إلى أن تقف معه قوى كبرى تخيف كل من تسول له نفسه الاعتداء أو الإيذاء.
وقد جاء في وثيقة من الوثائق الموجودة في الأرشيف الروسي ما يلي: «يطالبنا بذلك الشيخ مبارك والأمير الحر الثري المالك العربي لجون القرين، المفتاح إلى صحراء الجزيرة العربية، وإلى وادي دجلة والفرات، الأمير الذي دافع حتى الآن بكل هذا النجاح عن بلاده، وعن حريته من تطاول أعدائه، سواء الإنجليز أو الأتراك الذين قدروا منذ زمن طويل أهمية الكويت».
وفي باقي التقرير إشارات أخرى إلى مكانة الشيخ مبارك الصباح، وقدراته السياسية المبهرة، ومن ذلك: «حتى الآن لا إنجلترا، ولا الأتراك استطاعا أن يكسرا حرية الشيخ، وكان يفلت كالثعبان من أيديهم، ولن يسمح حتى آخر لحظة للإنجليز أو للأتراك بتثبيت تطلعهم للسلطة في إمارته».
لقد استطاع الشيخ مبارك أن يستميل القنصل الروسي إلى جانبه، ويجعله يكتب هذا التقرير الجيد عن سياسته وتطلعاته، وما كان ذلك إلا ضمن خطة الشيخ لصرف الأنظار عن الاتفاقية التي تمت بينه وبين بريطانيا في سنة 1899م، وهي التي اتفق مع البريطانيين على أن تبقى سرية بصفة مؤقتة لأسباب سياسية رآها الطرفان مهمة في ذلك الوقت.
ثانيا: هناك 3 أمور نود الإشارة إليها، وكلها لها علاقة بتاريخ الكويت، لأنها تشتمل على وصف لبعض الأشياء المهمة أو التي كانت مهمة، وهذه هي الأمور الثلاثة:
1- في شهر أكتوبر لسنة 1937م صدر العدد رقم 6 من المجلد الخامس للمجلة الجغرافية البريطانية، وهي مجلة تصدر في بريطانيا ولا تزال يتوالى صدورها، وتتنوع موضوعاتها حتى أصبحت قمة من قمم المجلات المتخصصة التي يقبل عليها العلماء وغيرهم لما فيها من فوائد كثيرة، ومعلومات وفيرة في مجال الجغرافيا ودراسة البيئات المختلفة، وفي هذا العدد الذي أشرنا إليه مقال مهم عن الكويت كتبته الآنسة فرايا ستارك التي زارت بلادنا في ذلك الوقت قادمة من مقر عملها في السفارة البريطانية في بغداد وسجلت في هذا المقال انطباعاتها ومشاهداتها في مزيد من التفصيل، وأرفقت به عددا لا بأس به من الصور التي تمثل تلك المرحلة من حياة الكويت.
قدمت المجلة لهذا المقال بقولها: «الآنسة ستارك ليست في حاجة إلى تعريف من قبل قراء هذه المجلة، وسيحدث مقالها عن الكويت وعيا وتفهما للحياة في هذا البلاد، ولا يشاركها في هذا المجال إلا قلة من الأوروبيين».
بدأت فرايا ستارك حديثها عن الكويت منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى المطار قائلة: «تهبط طائرات الخطوط الجوية الملكية (البريطانية) مرتين في الأسبوع وينزل ركابها ويمشون على أرض الصحراء المستوية التي يكسوها العشب ذي اللون الأزرق»، ثم تحدثت عن سور الكويت المجاور للمطار – آنذاك – وكيف تم بناؤه، ووصفت رجال الشرطة الذين يحيطون ببواباته.
وذكرت عادة الناس في الربيع وهي العادة التي لم تنقطع حتى اليوم، حيث يذهبون في رحلات إلى البر. ووصفت (الشاوي) الذي يرعى الغنم للأهالي، خارجا بها إلى البر يوميا. ثم ذكرت ألعاب الأولاد والبنات وصيد الطيور في الفخاخ، وقدمت وصفا دقيقا لبعض المباني البارزة في ذلك الوقت. وتحدثت عن جلب مياه الشرب من شط العرب، وعن الغوص وعاداته، وعن رحلات السفر، وأسواق الكويت، وعن استكشاف النفط، ثم وصفت الصور المرفقة بالمقال.
والخلاصة أن هذا الذي كتبته فرايا ستارك يقدم صورة واضحة عن الكويت في شهر أكتوبر لسنة 1937م، ويعطي القارئ ملامح عن الحياة فيها بصورة عامة. كانت هذه هي رحلتها الثانية إلى الكويت أما رحلتها الأولى فهي التي قامت بها في سنة 1932م، وقد وصلتها بطريق البر.
وقد جالت يومها في أسواق الكويت وشاهدت معالمها، وقد أثار إعجابها تمسك الكويتيين بالأخلاق الفاضلة ومحافظتهم على العادات الكريمة التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، وتحدثت عن المباني، وأشكالها ونوع البناء المعتاد آنذاك، ولاحظت أن اللباس الذي يرتديه الرجال يكاد يكون موحدا تميزه الدشداشة البيضاء، أما بالنسبة للنساء فإن العباءة السوداء هي العلامة البارزة لهن، واستهواها البحر، وما فيه من سفن، وكان منظر السفينة المعروفة بالسنمبوك من أهم ما أثار انتباهها وجلب إعجابها، وقد تحدثت عن عدد من السفن وعن صناعها، وعادت وهي تحمل معها عددا كبيرا من الصور الفوتوغرافية المهمة لنا اليوم.
2- من المعروف أن الكويت تعاملت مع البحر منذ تأسست، ولذلك فهي تعرف النظم البحرية المعمول بها في عرض البحار، وتعمل بها حتى لا تكون سفنها شاذة من بين السفن الأخرى التي تقوم بالإبحار في الخليج والمحيط الهندي وبحر العرب. ولا عجب أن يقوم أبناء الكويت من ربابنة السفن بهذا، فقد تمرسوا في العمل البحري، وأصبحت الملاحة مهنتهم لمدة طويلة.
التفت الوكيل السياسي البريطاني في الكويت بناء على توجيه رئيس الخليج إلى هذه المسألة وأحب أن يؤكدها، فأرسل كتابا إلى الشيخ أحمد الجابر الصباح في الخامس عشر من شهر نوفمبر لسنة 1933م، يخبره فيها أنه تلقى رسالة من رئيس الخليج، وأن هذه الرسالة لا تخص الكويت وحدها بل هي مرسلة – أيضا – إلى حكومة مسقط وحكومة البحرين، وإلى شيوخ ساحل عمان، وتشير الرسالة إلى أن رئيس الخليج قد طلب من الوكيل السياسي لفت الانتباه إلى الواجبات التي يجب أن يقوم بها ربابنة السفن حين يبحرون بسفنهم في البحار. وبين فيها أن من مصلحة هؤلاء أن يقوموا باستخراج أوراق تسجيل لكل سفينة تدل على البلد الذي تنتمى إليه، مع بيانات أخرى جرت إضافتها.
وأشارت الرسالة – كذلك – إلى وجوب رفع علم البلاد في كل وقت تكون فيه السفينة في عرض البحر. ومن الواضح أن رئيس الخليج قد شرح لهذه البلدان ضرورة تنبيه ربابنة السفن الخاضعين لهم إلى هاتين المسألتين بغية عدم إثارة المشكلات في داخل البحر، وبقصد التعرف على كل سفينة بواسطة ما يحمله ربابنتها من بيانات، وما تحمله ساريتها من أعلام، وكان ذلك كله ضروريا.
ولكن أمر الكويت يختلف، فالربابنة الكويتيون الذي عرفوا البحر، وطافت سفنهم في أرجائه، يعلمون أن هذين الأمرين من البديهيات، وهم في غير حاجة إلى تنبيه كي يعملوا بهما. وهذا هو الذي دفع الشيخ أحمد الجابر إلى الإجابة عن رسالة المقيم السياسي البريطاني في اليوم الثاني لوصول رسالته تلك، ليؤكد له فيها أنه ليس في حاجة إلى هذا التنبيه، ويقول: «نفيدكم بأن السفن الخاصة برعايانا أهل الكويت التي تسافر للبحر فهي حاملة أوراق التسجيل، ومسألة العلم فإننا ننبه على الجميع بتعليقه وقت الحاجة عندما يسافرون في البحر».
إن تقيد النواخذة الكويتيين بأنظمة الإبحار، هو الذي كان يحمي السفن الكويتية من كثير المشكلات.
3- عادت الكويت مؤخرا إلى تاريخها البحري، ففي غضون سنوات قليلة فاسترجعت عددا من سفنها التي تناثرت على سواحل الخليج بضفتيه. وكان بعض من أصحاب السفن الشراعية قد باعوها في الماضي عندما توقفت حركة السفن بحلول الوسائل الحديثة.
وكانت هذه السفن ذات أسماء معروفة سهلت في الوقت الحاضر التعرف عليها والبحث عنها، ومن ثم إعادتها إلى وطنها، ومن تلك السفن البوم (فتح الخير) وهو بوم كويتي شهير، اخترق البحار إلى عدد من المواني كغيره من الأبوام الكويتية التي كانت تنقل البضائع من موضع إلى آخر مارة بالخليج والهند وشرقي أفريقيا، وكان أهل الكويت من النواخذة والبحارة يتعاقبون على هذه السفن، ويخوضون أهوال البحار في سبيل لقمة العيش، وفي سبيل حفظ كرامتهم وكرامة وطنهم حتى لا يضطروا إلى الالتجاء إلى وسائل للكسب غير شريفة.
وقد أدى البوم (فتح الخير) دوره في تلك الأيام وارتحل ذهابا وإيابا ينقل أبناء الكويت المتاجرين عبر البحار، ويسهم في اقتصاد البلاد باقتدار.
صنع هذا البوم لصالح الأخوين محمد وثنيان الغانم، وقد صدر أمر الصنع هذا إلى صانع السفن علي عبدالله عبدالرسول في عام 1938م. وقد تخوف هذا الصانع الذي لم يكن قد بلغ الـ 40 من عمره في ذلك الوقت من مسؤولية القيام بهذا العمل، وظن أنه لن يستطيع الوفاء بتحقيق هذا الأمر، ولكن ثقة ثنيان الغانم كانت قوية بهذا الشاب، فأكد عليه ضرورة الإنجاز، وأبلغه أنه سوف يوصي عليه أستاذه أحمد بن سلمان لكي يتابع معه العمل، ويزوده بملاحظاته ونصائحه، مما شجع عبدالله عبدالرسول على المضي قدما في هذا المشروع.
وتم إنجاز البوم على خير وجه، وأنزل في احتفال بهيج إلى عرض البحر، وبدأت أولى رحلاته في موسم السفر 1938-1939م. واستمر (فتح الخير) في رحلاته يصارع الأمواج والعواصف، ويتعاقب عليه النواخذة الكويتيون الذي طالما قادوه إلى المواني المختلفة.
حتى إذا جاءت سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وبدأت موجة العمل البحري في التراجع بسبب سهولة العمل في الوظائف التي وفرها تدفق النفط في البلاد. كان لا بد من أن يتوقف (فتح الخير) عن العمل فتم بيعه على شخص من ميناء كنج الإيراني، وخرج من الكويت في الحادي والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1952م، وظل متداولا بين عدد من الملاك، ولكنه عاد أخيرا ليكون أثرا من آثار تلك الأيام الجميلة، وذلك برعاية سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير البلاد الراحل، فكان عرضه في المركز العلمي في السابع عشر من شهر أبريل لسنة 2000م دليلا على هذه الرعاية حيث تم ذلك ضمن الاحتفال بافتتاح ذلك المركز.
* * *
هذا ما أردنا ذكره، وإلى اللقاء في حلقة أخرى بموضوعات نراعي في عرضها هذا النمط الذي قدمناه هنا.
