السبت 29 نونبر 2025 – 21:31
حين كنت مدرسا، كان حجم الضريبة السنوية على الأجر يتجاوز 50000 درهم، من أجرة لا تتجاوز صافي 14000درهم شهريا، وكان لي صديق مساهم في مقهى من النوع الرفيع في المدينة، فسألته يوما عن الأرباح الشهرية فقال إنه يتبقى له صاف يتجاوز 20000 درهم شهريا وقد يصل إلى ثلاثين أو أكثر. وسألته عن الضريبة السنوية فاعترف أنه يؤدي هو والمساهمون أقل من 20000 درهم. فاستخلصت أن من يؤدي الضريبة دون مراوغة ولا مهرب هم الأجراء والموظفون، هؤلاء الذين تعرف وزارة المالية العروق الصغيرة لدخولهم. أما عدا ذلك، فعالم من الظلم لا يمكن تصوره.
وكما قلنا في مقال سابق إن الأجير والموظف هما الوحيدان اللذان يسحقهما التضخم لأن مدخولهما لا يتغير إلا بتدخل المشغل، فإن إفلاتهما من أداء الضريبة (على حقها وطريقها) لا مندوحة عنه ولا مهرب. وحجم هذا الاقتطاع الضريبي نفسه فيه ظلم كبير قياسا بالدخل. هذا رغم بعض الإعفاءات التي طالت الأجور الصغيرة، وتكون غالبا تحت عتبة 3000 أو 4000 درهم شهريا.
في الأيام الأخيرة، أفاقت الدولة من غفوتها، وحصّنت الواجب الضريبي من خلال رقمنة ذكية تُصَعّب التهرب والتلاعب الضريبي، وعن طريق محاصرة الفوترة المزيفة ومحاربة الكاش بكل الوسائل الممكنة. وقد تبين أن تشديد الخناق على المعاملات العقارية بدأ يؤتي أكله. وقد فوجئت مؤخرا بأداء المواطنين لضريبة النظافة بعد أن كان أغلبهم يتهرب منها، فانتعشت مداخيل الجماعات بشكل غير مسبوق. كما أن عمليات البيع والشراء عند الموثقين لا تتم إلا بوثائق تبرئ “الذمة التضريبية” في انتظار تنظيم العقود العدلية.
في الكثير من الدول الغربية يُفرض على المواطنين تبرير مصدر الأموال عند الشراء، فتصبح كل الأموال المكدسة في البيت غير ذات جدوى، اللهم إذا تم تبريرها باحتيال ذكي. وهذا الضغط على الكاش هو الذي يجب أن يمارس في بلادنا. كما يجب الانتباه إلى الاستثمارات الفلاحية الضخمة التي تعتبر تبييضا للأموال المفترض خضوعها للضريبة بسبب الإعفاء الضريبي الفلاحي الذي لا يفرق بين صغار الفلاحين وكبارهم.
الواقع الضريبي اليوم يقول إن عددا قليلا من المقاولات تؤدي الضريبة دون مراوغة، وهي في الغالب مقاولات كبيرة الحجم لا يمكنها ممارسة هذه الجريمة. علما ان الدولة لها من الإمكانات ما يجعلها تراقب أرقام المعاملات، وقد نعذرها في صعوبة متابعة معاملات الطبيب والمحامي وغيرهما من أصحاب المهن الحرة، لكن المقاولات التي يتجاوز رقم معاملاتها أكثر من عشرة ملايين درهم لا يمكن غض البصر عن هامش ربحها “المختفي”.
نصل أخيرا إلى الإعفاء الضريبي الذي يتمتع به القطاع الفلاحي، فنقول إن تشجيع الفلاح ينعكس بشكل إيجابي على المواطن، وينمي الإنتاج الفلاحي في أفق الأمن الغذائي للبلاد، لكن هذا الإعفاء انحرف عن هدف خدمة هذا الأمن ليصبح أداة لتنمية الصادرات وتضخيم العملة الصعبة، وهو أمر غير مقبول. كما أن إعفاء عمالقة الفلاحين الذين تحولوا إلى مليارديرات تتضاعف ثروتهم بشكل يجعل الإعفاء انحرافا عن العدالة الضريبية. والرأي أن يعفى صغار الفلاحين ومتوسطوهم وتفرض الضريبة على أثرياء الأرض.
التهرب والتماطل الضريبي جريمة تعكس ضعف الحس الوطني رغم التبريرات الكثيرة التي لا تقنع، كادعاء اعتبار الزكاة ضريبة تعفي من ضريبة القوانين الوضعية، أو مناصبة النظام العداء حتى اعتبار الضريبة شماتة ونصبا واحتيالا من الفاسدين في الحكم. لكن الأمر لا يعدو أن يكون عدوى أصابت الجميع، غنيا وفقيرا.
المصدر: وكالات
