منذ بداية الستينيات، فتحت أوروبا أبوابها أمام موجات متتالية من المهاجرين؛ سعيا إلى سد حاجتها من الأيدي العاملة في مجالات مثل الفلاحة والبناء والمصانع، وغيرها من القطاعات التي تعتمد على الجهد البشري. لم تكن هذه الهجرات مجرد انتقال من المغرب إلى بلدان أخرى، بل كانت رحلة إنسانية شديدة التعقيد، تتداخل فيها أحلام البحث عن حياة أفضل مع واقع المعاناة وصعوبات الاندماج في مجتمع جديد. وهذا بالضبط ما يوثقه الكاتب والناشط الجمعوي قاسم أشهبون في مؤلفه “لهجرتنا حكايات”.
وبالنظر إلى عنوان الكتاب، يتبين لنا أن الصيغة التي اختير بها تضع المؤلف داخل مضمون قصص هذه الهجرة، بل تجعله جزءا من حكاياتها. فالكتاب ليس مجرد توثيق للتاريخ الاجتماعي للهجرة، بل هو تأسيس لتجربة شخصية احتكت بتواصل عضوي عبر تجارب أخرى متنوعة في توجهاتها وخلفياتها ومجالاتها. وهذا ما يمنح كتاب: “لهجرتنا حكايات” قيمة خاصة وأهمية مستمرة، تجعلانه مرجعا لا غنى عنه لكل باحث في قضايا الهجرة، ومَصدرا ثريا يمكن العودة إليه والاستفادة من مادته.
الكتاب في مجمله يستعرض حكايات واقعية لشخصيات متباينة وبتجارب متباينة أيضا، ومن هذا المنطلق نجد الكاتب يلتقط عينات بعناية فائقة، تمثل مسارا طويلا وشديد التعقيد. لهجرات تمثل كل واحدة منها زمنا ومرحلة وتجربة مستقلة بذاتها. وعلى سبيل التذكير ببعض النماذج لا يمكننا أن نغفل ذكر شخصيات شكلت الجوهر الذي بنى عليه الكاتب قاسم أشهبون مؤلفه التوثيقي: “لهجرتنا حكايات.” وبما أننا لا نستطيع ذكر كل التجارب والأسماء فلا ضير في استعراض عينة ربما تفي بالغرض. ونقف في البداية عند حكاية من حكايات الهجرة التي عاشها الحاج أحمد الدرري وهي حكاية، كما يصفها الكاتب: “حكاية واحد من أفراد الجيل الأول من المهاجرين المغاربة بهولندا، يمكن أن تكون نموذجا لحكايات آلاف المهاجرين أمثاله.”
ينقل الكاتب عن الحاج أحمد الدرري فقرة بليغة، تكشف بوضوح عمق المعاناة التي رافقت تجربة الهجرة من المغرب إلى هولندا وسائر بلدان أوروبا الغربية في تلك الفترة: “عندما ظهر الخارج (الهجرة إلى أوربا) فكرت أنا أيضا في السفر. ولكنني لم أكن أتوفر على التسريح (جواز السفر)، فقمت بتقديم طلب ولكن دون جدوى فقررت الحج. بعت بقرة وذهبت إلى الحج في رفقة تتكون من ستة أشخاص في سيارة. أثناء الرحلة مررنا بالقدس الشريف. بعد عودتي، سافرت بنفس الجواز إلى أوربا عن طريق مليلية، وذلك في سنة 1965.”
في هذه الفقرة يضعنا الكاتب أمام التحدي الأكبر الذي يسبق حتى سائر تحديات الهجرة، إذ إن الهجرة الشرعية التي انطلقت في ستينيات القرن الماضي جرت عبر قنوات رسمية ودون مشاكل تذكر. غير أن منطقة الريف، وقد كانت آنذاك ترزح تحت وطأة بطالة متفشية، وجفاف مزمن، وغياب تام للبنية الفلاحية والصناعية، لم تترك للشباب سوى التطلع إلى الهجرة نحو أوروبا الغربية الخارجة لتوّها من حرب مدمّرة، والواقفة أمام مهمة إعادة البناء من الصفر تقريبا. غير أن المعضلة الحقيقية التي اعترضت طريق هؤلاء الشباب تمثلت في الحصول على جواز سفر؛ وهو في ذلك الحين كان أصعب من نيل جواز دبلوماسي الآن. ولهذا السبب كان الشباب، كما ينقل الكاتب عن الحاج أحمد الدرري، لا يحصلون عليه، في الغالب، إلا لأجل الحج، وبعد معاناة لا تنتهي بسبب البيروقراطية وإلزامية دفع الرشاوى، أو كما يروي قاسم أشهبون عن الحاج أحمد الدرري: “أحيانا كان المقبل على الهجرة يقوم بشراء جواز سفر شخص آخر يغادر به البلاد.”
وبتعبير ينبض بالوفاء واعتراف بالجميل، يرسم الكاتب صورة للمرحوم الحاج محمد الدرري، واصفا إياه بأنه: “كان يحظى في صفوف الجالية المغربية بمدينة هارلم باحترام وتقدير كبيرين. كان ما يتميز به بالخصوص ذاكرته القوية التي لم تنل منها السنون. فهو عندما كان يحكي عن حادثة ما يذكرها بتفاصيلها باليوم والساعة والأسماء. ولا نبالغ إذا قلنا بأن الحاج محمد كان بمثابة أرشيف حي. ولعمري إن قولة كلود ليفي ستراوس الشهيرة (في أفريقيا يعتبر موت شيخ بمثابة مكتبة تحترق) تنطبق أشد الانطباق على الحاج محمد الدرري الذي وافته المنية في أحد مستشفيات مدينة هارلم في سنة 2011 عن عمر ناهز 96 عاما، فتم نقله إلى المغرب ليدفن في مقبرة دواره إكردوحن.”
الرسائل
يواصل الكاتب عرض عدد من القضايا ذات الأهمية البالغة في كتابه “لهجرتنا حكايات”، وهي قصص تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها مليا. غير أن ضيق الحيز لا يسمح بتناول جميع هذه التجارب، لذا اكتفينا بانتقاء بعض المواضيع القليلة التي تضمنها الكتاب، في محاولة لتقريب القارئ من محتواه؛ علما أن هذه المقالة لا يمكن أن تكون بأي حال بديلا عن قراءته، لأنها تضيء فقط جانبا يسيرا مما جاء في هذا العمل التوثيقي المهم.
وفي فصل شيق، يعرض الكاتب قاسم أشهبون أساليب تواصل المهاجرين مع ذويهم في المغرب، في ظل انعدام شبه كامل للهاتف الثابت في القرى والبلدات التي كانت تفتقر حتى إلى خدمات الكهرباء آنذاك. وجاء في الكتاب هذا المقطع المعبر: “وللإشارة فالرسائل في تلك الفترة لم تكن تصل بالسرعة التي نعهدها اليوم. لقد كانت تستغرق أسابيع وربما الشهر والشهرين قبل أن تصل إلى أصحابها. وإذ كان المهاجرون الأوائل في معظمهم من سكان البوادي حيث لا يصل موزع البريد، فقد كان من اللازم أن يتم اختيار عنوان للمراسلة في أقرب مدينة أو قرية تتوفر على مكتب للبريد. ففي ميضار مثلا كانت الرسائل توجه إلى الدكاكين وخاصة يوم الأربعاء (يوم السوق الأسبوعي).”
وبعد معاناة إرسال الرسالة وانتظار وصولها، كما يورد الكاتب في هذا الفصل، تبدأ رحلة أخرى من المشقة تتمثل في مَن يتولى قراءتها. ويصف الكاتب ذلك بقوله: “البحث عمن يقرأ الرسالة والذي غالبا ما يكون إمام المسجد أو تلميذ (وهذان هما من يقومان أيضا بكتابة الجواب).”
ومع مرور الوقت برزت وسيلة بديلة أكثر نجاعة، تضمن الخصوصية الكاملة بين المهاجر وأسرته، وهي جهاز “المسجلة” الذي اعتُبر آنذاك ابتكارا لا مثيل له في تسهيل الفهم والتواصل. فقد أتاح الشريط المُسجَّل الاعتماد على الصوت المباشر، بعيدا عن وساطة القراءة والكتابة في مجتمع كانت الأمية فيه شبه شاملة، ولا يتكفل بالقراءة إلا بعض الأطفال أو الفقهاء التقليديون في المساجد. ومع شيوع استعمال المسجلة غدا التواصل أكثر سلاسة وفعالية، وفي هذا يكتب مؤلف الكتاب قاسم أشهبون: ” وجاء عهد جهاز الكاسيت (المسجلة) أواخر الستينات. وقد كان اكتشافا رائعا وظفه المهاجرون وعائلاتهم من أجل التواصل فيما بينهم أحسن توظيف. فكانت المسجلة من بين الهدايا التي يستصحبها المهاجر معه لدى عودته خلال عطلته السنوية، فيعلم ذويه كيفية استعمالها لتبدأ مرحلة إرسال أشرطة الكاسيت المسجلة بين الطرفين.”
بهذا التطور الذي رصده الكاتب، أصبح بإمكان المهاجر التواصل مع أهله بشكل أفضل، والأهم أن الوسيلة تنقل الصوت والكلام بأوضح صورة ممكنة. فقد كان التواصل بين المهاجر وعائلته في بدايات الهجرة معضلة حقيقية تؤرق الطرفين، المُرسِل والمُرسَل إليه على حد سواء. ويحسب للكاتب قاسم أشهبون أنه لم يغفل هذا الجانب الحيوي الذي رافق مسار الهجرة. ويُعد هذا الفصل، برأينا، من بين أهم فصول الكتاب، لأنه تناول مسألة هيكلية وبنيوية في سياق فترة تاريخية لم تكن وسائل التواصل فيها قد بلغت المستوى المتطور الذي نعرفه اليوم.
من بلد إلى آخر قبل الاستقرار
يروي الكاتب قاسم أشهبون في كتابه “لهجرتنا حكايات” قصة بطل سباق الدراجات الحاج أحمد العلواني، الذي قرر في سن الرابعة والعشرين الانطلاق نحو فرنسا بتاريخ 10 أغسطس 1960، حاملا دراجته معه عبر البحر. بعد أيام قليلة وصل إلى مارسيليا، ومنها انتقل إلى بلدة هارن القريبة من مدينة ليل، ثم عاد إلى باريس. ومع مرور الوقت، اتخذ قرارا بالانتقال إلى ألمانيا، قبل أن يعود إلى بلجيكا، وأخيرا يستقر في هولندا.
امتدت هذه التنقلات لأربع سنوات، وكانت كلها نتيجة ظروف العمل القاسية، والإقامة غير الملائمة، والبحث المستمر عن مكان يوفر الراحة، حيث كان العامل يُجبَر على تحمل الأعمال الشاقة، غالبا في المناجم والمعامل التي تنعدم فيها كل الظروف الصحية.
ومع استقراره، يسلط الكاتب الضوء على كيفية ارتباط المهاجر بممارسة شعائره الدينية، مقدما صورة مختصرة لكنها دقيقة عن التزامه بالفرائض الإسلامية. ونورد هنا الفقرة التي تختزل كل ذلك: “وعن ذكرياته مع رمضان خلال ستينيات القرن الماضي يحكي الحاج العلواني بنبرة تشي بنوع من النوستالجيا عند اقتراب رمضان كنا نقضي اليوم السابق له ملتصقين بأجهزة الراديو. فترى الواحد منا يضع أمامه أحيانا مذياعين يبحث فيهما يمينا ويسارا عبر الأمواج القصيرة عن إذاعة عربية تعلن بداية الصوم.”
هكذا كانت تتراكم المتاعب الجانبية المؤثرة التي صاحبت رحلة الهجرة في ظرفية صعبة وشاقة للغاية. ويختتم الكاتب قاسم أشهبون هذا الفصل بحقائق تدعو إلى تأمل عميق: “في سنة 1983 سيرجع الحاج العلواني إلى المغرب مع أسرته ليتيح لأبنائه فرصة تعلم اللغة العربية والإسلام. حيث سيمكثون هناك نحو 10 سنوات ليعودوا جميعا مرة أخرى إلى هولندا سنة 1994 التي مازال يعيش فيها إلى الآن.”
بحرقة يختم الحاج العلواني حكايته: “والآن عندما أرى شبابنا وهم يسخطون على الواقع الحالي أحس بالألم. في السنوات الأولى من الهجرة لم تكن هناك مساجد ولا متاجر إسلامية… واليوم أصبحنا نتوفر على كل شيء ونتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن هولندي آخر.”
رواية يما للكاتب محمد بنزاكور
يعد الكاتب والروائي محمد بنزاكور واحدا من أبرز الأصوات الإبداعية التي تكتب باللغة الهولندية، وتأتي روايته “يما “ثمرة لسيرة قاسية توثق لمرض والدة الروائي محمد بنزاكور؛ الذي وظف أسلوبا ولغة مشحونة بعواطف ومواقف إنسانية تدعو إلى تأمل كئيب، لكنها تولّد أفكارا تأملية عميقة. ويكتب قاسم أشهبون، الذي تكفّل بترجمة الرواية: “لقد حاولت خلال الترجمة الإخلاص قدر الإمكان للنص الهولندي، فلم أكتف بترجمة المعنى فقط بل حاولت نسخ الصورة التعبيرية كما وضعها المؤلف إلى اللغة العربية. الأمر الذي لم يكن سهلا دائما، على اعتبار أن لكل لغة نسقها ونظامها الخاصين، فمهما حاول المترجم الإخلاص للنص الأصلي فسيبقى (خائنا.(”
إنها رواية مؤلمة، تُظهر لنا أوجه الحياة التي تفاجئنا بتغيراتها المتواصلة. هذه التحولات الكبرى قد تدفع البعض إلى تأمل وجودي عميق، وطرح تساؤلات لا حدود لها، لماذا يكون هذا هو الضحية لتقلبات الحياة وليس الآخر؟ ومع ذلك، نكتشف في النهاية أننا مجرد آخر بالنسبة لكل آخر، وهذه هي القاعدة التي تحكم الحياة.
ويورد الكاتب قاسم أشهبون صفحات من رواية: “يما” مشحونة بمختلف المشاعر الإنسانية في ذروة ضعفها، وننقل هنا فقرة من الصفحة (49) بعنوان (اليد): “كانت جالسة نصف مستديرة إلى زاوية التدخين، مائلة بجانبها الأيسر على الدرابزين. بيدها اليسرى كانت تمسك، كما علمت نفسها ذلك، ذراعها اليمنى بإحكام، حتى أنني غالبا ما كنت أفكر بأنها كانت تخشى بأن تسقط منها يوما ما. أحيانا، في لحظة بدون حراسة، كانت ذراعها تنزلق منها. فتهوي إلى الأسفل وتبقى كأنها مخلوق غريب ميت متدلية بجانب العجلة. إلى حين أن تنتبه إلى ذلك. عندها تقوم بالاستدارة جانبيا بكل جسمها وبأقصى طاقتها لتقوم بإمساك الذراع من خلال الكم.”
كتاب “لهجرتنا حكايات” زاخر بتجارب مثيرة تستحق التوقف عندها والتحليل الدقيق، فهو كتاب ممتع ومفيد، غني بالقصص التي تحفظ ذاكرة الهجرة وجذورها وأسبابها والمراحل التي مرت بها. قد يكون هذا الكتاب فريدا من نوعه وغير مسبوق في طريقة تناوله لمواضيع الهجرة، وبلا شك بذل الكاتب قاسم أشهبون جهدا جبارا لجمع مادته المتنوعة وتقديمها بقيمة عالية للمكتبة المغربية، خصوصا. أورد المؤلف فصولا وحكايات أخرى شيقة تستحق الإحاطة والتحليل، غير أن ضيق الحيز حال دون استعراض جميع الموضوعات التي تناولها الكتاب.
وما يمكننا استخلاصه في النهاية هو أن هذا الكتاب بالذات يجب أن يُترجم إلى اللغة الهولندية، إذ سيمتد تأثيره من الباحثين والمهتمين بمجال الهجرة من لغة واحدة، إلى الجيل الذي وُلد وترعرع في بيئة غربية ولا يعرف تقريبا أي شيء عن قصص أجداده، ومعاناتهم من أجل الاستقرار في بلدان الهجرة، وبناء مستقبل أفضل لأبنائهم وأحفادهم. ولعل هذا الجيل هو الجيل الذي يستهدفه الكاتب. ولهذه الأسباب، أرى وجوب ترجمة “لهجرتنا حكايات” إلى اللغة الهولندية، ولمَ لا إلى لغات أوروبية أخرى.
المصدر: وكالات
