يرى الأكاديمي الدكتور إدريس لكريني أن العجز الذي أصبحت عليه وسائل الإعلام التقليدية في مواكبة التحولات المجتمعية أتاح لشبكات التواصل الاجتماعي لتصبح متنفسا هائلًا واسع الانتشار على مستوى العالم للتعبير عن الآراء والمواقف بشأن قضايا متعددة، متسائلا حول إمكانية استثمار هذا التمدد والإشعاع على مستوى خدمة قضايا حقوق الإنسان.
وأضاف لكريني، في مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”شبكات التواصل الاجتماعي وقضايا حقوق الإنسان”، أن شبكات التواصل الاجتماعي تواجه تحديات كبيرة في ضبط المحتوى المنشور، حيث تتفشى فيها الإشاعات والأخبار الكاذبة، مما قد يؤدي إلى المساس بحقوق الأفراد وكرامتهم، ويطرح إشكاليات قانونية وأخلاقية نتيجة لافتقار العديد من مستخدميها إلى الوعي الصحفي والقانوني.
وأكد أن كسب رهان مساهمة شبكات التواصل الاجتماعي في تعزيز حقوق الإنسان يظل مشروطا بكفاءة روادها، وبوجود قوانين تحافظ على هامش الحريات التي تتيحها هذه القنوات.
وهذا نص المقال:
مع التطورات الكبرى التي لحقت بشبكات التواصل الاجتماعي، وتزايد انتشارها عبر العالم وفي أوساط عدد من الفئات داخل المجتمع، وتباين المواضيع والقضايا التي تتناولها، وتأثيراتها الملحوظة في توجّهات الرأي العام على المستويين الوطني والدولي، تطرح الكثير من الأسئلة حول إمكانية استثمار هذا التمدد والإشعاع على مستوى خدمة قضايا حقوق الإنسان.
وقد أتاحت هذه الشبكات إمكانيات كبيرة أمام الأشخاص من أجل التواصل والتعبير عن الآراء والمواقف إزاء قضايا مختلفة. وأخذا بعين الاعتبار عجز الكثير من وسائل الإعلام التقليدية عن مواكبة التحولات المجتمعية، أصبحت هذه الشبكات تمثل متنفسا لتجاوز الإكراهات والقيود الاجتماعية والسياسية والقانونية التي تحد من حرية الصحافة، ما جعلها تعجّ بالعديد من المواقف والآراء الجريئة، التي جعلت من بعضها منبرا للدفاع عن الحقوق والحريات، وللتعريف بمختلف المشاكل الاجتماعية.
فرضت هذه القنوات نمطا إعلاميا جديدا لا يمكن تجاوزه أو التنكر له بعدما تجاوزت أساليب الرقابة التقليدية ووسّعت هامش الحرية والجرأة في تناول عدد من القضايا. ويبدو أن هناك عوامل عدة تدعم مصداقية الرسائل الإعلامية التي تنقلها هذه الشبكات، يمكن إجمالها في التوثيق بالصورة والصوت ومقاطع الفيديو، واعتماد الكثير من وكالات الإعلام العالمية على ما تعرضه هذه المنابر من محتويات رقمية، ونجاح بعضها في فضح كثير من مظاهر الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، علاوة على تكسير حاجز الحدود الجغرافية والسياسية بين الدول والمجتمعات، وترسيخ تواصل إعلامي تفاعلي يدعم التفاعل وتعزيز النقاش المفتوح إزاء عدد من القضايا والمواضيع.
وعموما، فتحت شبكات التواصل الاجتماعي آفاقا واسعة للتأثير في الرأي العام، وتحوّلت في ظرف وجيز من قنوات للتواصل إلى آليات مؤثّرة سمحت بإسماع أصوات فئات مجتمعية عدة، كما أتاحت للأفراد إمكانية الدفاع عن الحقوق والحريات، وإرساء ثقافة حقوقية داخل المجتمعات.
وأبرزت الكثير من المحطات الدولية حجم التطور والتأثير اللذين أصبحا يطبعان أداء هذه الشبكات، فخلال فترة الحراك الذي شهدته الكثير من الأقطار العربية كان لهذه القنوات أثر كبير في كسر طوق التعتيم عن الاحتجاجات والمعاناة التي شهدتها مجموعة من البلدان، وهو ما ساهم في بناء رأي عام وطني وإقليمي ودولي كان له وقع كبير فيما يتعلق بتطور الأحداث التي رافقت هذا الحراك. كما واكبت هذه الشبكات ولو بأشكال مختلفة التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، خاصة على مستوى فضح الجرائم الخطيرة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ورغم الفرص والتطورات التي تعزّز حضور هذه الشبكات داخل المشهد الإعلامي، ما زالت تطرح الكثير من الإشكالات في علاقة ذلك بالقضايا التي تعالجها والمقاربات المعتمدة في هذا الصدد، والتي تصل في كثير من الأحيان حدّ المسّ بحقوق الإنسان عبر نشر الإشاعات وإطلاق الأخبار الكاذبة والمضلّلة، علاوة على ارتكاب السرقات الأدبية، والقذف والسبّ والعنصرية وانتهاك الحياة الخاصة للأفراد، والمساس بكرامة وحقوق وحريات الآخرين.. حيث يتصوّر الكثير من رواد هذه الشبكات، الذين يفتقرون لمقومات العمل الصحفي الاحترافي وللثقافة القانونية، أن هذه الفضاءات الافتراضية، التي تمكنهم من فتح حسابات بأسماء مستعارة والنشر بلغات مختلفة وتوظيف تقنيات متطورة في هذا الصدد كـ”الفوتوشوب والذكاء الاصطناعي”، غير خاضعة لضوابط القانون.
حاولت الكثير من الدول تجاوز هذه المشكلات عبر إصدار مجموعة من التشريعات، التي سعت إلى الموازنة بين ممارسة حرية التعبير كما هي مؤطرة بعدد من المواثيق والتشريعات الدولية من جهة، واحترام حقوق الإنسان ومختلف القوانين من جهة ثانية. فيما قامت دول أخرى بفرض ضغوطات على رواد هذه الشبكات، بلغت حدّ الاعتقال، إما بسب خرق القوانين أو في إطار تضييق الخناق على حرية التعبير ومنع ملامسة عدد من القضايا الحساسة والمواضيع الحارقة.
بعيدا عن التفاهات التي تنشرها بعض الحسابات، يمكن لشبكات التواصل الاجتماعي أن تساهم في تعزيز حقوق الإنسان، سواء على المستوى الأفقي من خلال ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا والتربية عليها، بما يعزز الثقة بالنفس وتجاوز عقد الخوف في مواجهة التعسفات التي تمارسها بعض الدول، وفتح نقاشات بناءة بصدد مواضيع تنصبّ على تناول الحقوق والحريات، والترويج لكتب ومقالات وتقارير وتشريعات وطنية واتفاقيات دولية ذات الصلة بالموضوع، والتعريف بمنظمات وهيئات محلية ودولية تعنى بهذا الشأن.. أو على المستوى العمودي عبر المساهمة في فضح الانتهاكات، التي تطال حقوق الإنسان عبر العالم، وتسليط الضوء على معاناة بعض الفئات المجتمعية كذوي الهمم والمهاجرين والأقليات واللاجئين والمرضى، وحثّ الدول على المصادقة على مختلف الاتفاقيات الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان.
مثلت شبكات التواصل الاجتماعي متنفسا حقيقيا سمح بتجاوز عدد من الاختلالات والنقائص التي واكبت أداء الإعلام التقليدي، غير أن كسب رهان مساهمة هذه الشبكات في تعزيز حقوق الإنسان يظل مشروطا بكفاءة روادها، وبوجود قوانين تحافظ على هامش الحريات التي تتيحها هذه القنوات، وتضع حدّا للانحرافات التي يمكن أن تحولها إلى سلاح يسيئ للحقوق والحريات.
المصدر: وكالات