لا يستطيع أحد أن ينكر النقلة التعليمية الهائلة التى خطتها وزارة التربية والتعليم خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة فى عهد وزيرى التعليم السابقين طارق شوقى ورضا حجازى، وما يستكمله الآن وزير التعليم الحالى د. محمد عبداللطيف، لم يكن أحد من الراغبين فى الارتقاء بالعملية التعليمية متحمساً للإبقاء على أسلوب التلقين العقيم الذى كان معمولاً به فى مدارسنا لعشرات السنين.
ولذلك استبشرنا خيراً حينما اعتمدت الوزارة أسلوباً قائماً على الفهم والاستيعاب والاستنباط والاستدلال إلى آخر ما يمكن أن ينمى القدرة على الفهم والابتكار بدلاً من الحفظ الببغائى وحشر المعلومات فى أدمغة الطلبة لمجرد إفراغها فى ورقة الامتحان، ثم لا تلبث أن تتبخر بعد الخروج من اللجنة دون أن يحولها الطالب إلى معلومات معرفية متراكمة، لا سيما مع استحداث الاعتماد على التابلت عند بداية المرحلة الثانوية وما أحدثه ذلك من طرق متنوعة ومتجددة فى الحصول على المعلومة وفتح آفاق جديدة فى الوصول إلى المعرفة والانفتاح على العالم من حولنا.
كل هذا جميل ورائع، وتوجُّه محمود يصب فى صلب السياسة التعليمية الجديدة التى انتهجتها وزارة التربية والتعليم، ولكن ماذا عن التطبيق العملى على أرض الواقع؟ أستطيع أن أتفهم تماماً حرص الوزارة حالياً على ربط الطالب طيلة الوقت بالمعلومة والدرس، وخاصة مع اعتماد أسلوب تكاملية المواد الدراسية، لكن على وزارتنا العزيزة أن تدرك أن أى شىء إذا زاد عن الحد انقلب إلى الضد، خاصة فى المرحلة الابتدائية، مرحلة التكوين الذهنى والمعرفى وترغيب الطلاب فى طقس المذاكرة والارتباط الإيجابى بالمدرسة وبالعملية التعليمية بوجه عام، فبعد مرور خمسة أسابيع تقريباً على بدء العام الدراسى الجديد 2024- 2025.
وإقرار الوزارة فكرة الامتحانات الأسبوعية ثم الشهرية بات التلميذ الصغير مطالباً كل يوم بأداء امتحان فى مادة معينة، وأصبح لزاماً عليه أن يبقى طوال الأسبوع من لحظة انتهاء اليوم الدراسى إلى صباح اليوم التالى منكبا على الكتاب يحاول أن يلاحق ما سوف يمتحن فيه داخل الحصة الدراسية، بل إن مدة الحصة نفسها لم تعد كافية للامتحان والشرح معاً، فتكون النتيجة تأخر كثير من المدرسين فى شرح مناهجهم الدراسية أو (كروتتها) رغبة فى الالتزام بالتوقيتات الموضوعة سلفاً حتى الانتهاء من شرح المواد الدراسية على مدار العام الدراسى.
أما الطفل المسكين طالب السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية الذى من المفترض أن يعيش طفولته، ويجد فيها وقته لممارسة هواياته، وتنمية مدارك أخرى بخلاف التعليم والاستذكار فلم يعد أمامه إلا العكوف على الكتاب آناء الليل وأطراف النهار يلهث وراء ما سوف يمتحن فيه كل يوم وكل أسبوع وكل شهر، فتكون النتيجة عدم تأصيل المعلومة الدراسية وثباتها فى ذهن الطالب، وضياع كل هذا الجهد فى الشرح والتحصيل، وتبخر المعلومة بعد أن كتبها فى ورقة الامتحان هذا إذا تذكرها أصلاً فى ظل كل هذه الضغوط والأعباء الملقاة عليه بشكل يومى ودائم، فنصبح فى النهاية أمام نفس النتيجة التى كنا نريد تجنبها جراء النظام التقليدى الذى كان معمولاً به فى عهود سابقة.
ثم ماذا عن طفولة هؤلاء؟ عن إحساسهم بمتع المرحلة السنية التى يعيشونها؟ عن حيويتهم وانطلاقهم وهواياتهم فى ظل هذا الكبت الدائم والضغط المستمر؟ وماذا عن حبهم للمدرسة؟ عن رغبتهم فى التعليم؟ عن ارتباطهم النفسى بمدرسيهم؟ لقد اشتكت لى إحدى الأمهات بأن ابنها الذى يدرس فى الصف الثالث الابتدائى لم يعد راغباً من الأساس فى الذهاب إلى المدرسة بعد أن كان متفوقاً ومحباً لها، وأنها حينما توقظه فى الصباح يقوم مفزوعاً من نومه وهو يردد حتى من قبل أن يفتح عينيه: «لا مش ح أكتب الدرس، أنا تعبت».
لقد باتت الواجبات والدروس تلاحقهم فى نومهم قبل يقظتهم، وتفسد عليهم طفولتهم.. نحن لا نريد أن تتحول العملية التعليمية إلى كابوس يطارد أطفالنا، أو عبء نفسى وذهنى وبدنى يفقدهم الحماس نحو التحصيل الدراسى، نريدهم أن يستمتعوا بدراستهم، ويحبوا الطقس ذاته، ويسعوا إلى الذهاب إلى المدرسة بفرح ورضا، أنا لا أريد أن أحدثكم عن تجربتى وأنا وفى مثل سن هؤلاء الأطفال وفى ظل النظام العقيم الذى كان يحكم العملية التعليمية كنت أجد وقتاً لحفظ القرآن الكريم والاشتراك فى مسابقاته، وممارسة الرياضة والموسقى والتمثيل والصحافة المدرسية والرحلات جنباً إلى جنب مع التحصيل الدراسى، بل إن تلك الأنشطة كانت تزيد من حماسنا نحو الاستذكار والتفوق.
أعود وأكرر إننا جميعاً مع تطوير العملية التعليمية ومع الخطوات المخلصة التى تقوم بها الوزارة، وندعم تماماً جهودها فى سبيل ذلك، لكن أسلوب التطبيق بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر وتقييم الغايات والوسائل من أجل الوصول إلى أهدافنا النبيلة التى نتشارك فيها جميعاً نحو أبنائنا الصغار، ولنتذكر دائماً أن التربية تسبق التعليم فى مسمى وزارتنا العزيزة.