خلص مصطفى بن شريف، المحامي والأستاذ الزائر بجامعة محمد الأول، إلى أن بعض مواد مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02 “لا تتوافق مع أحكام الدستور، ولا تعبر عن الإرادة العامة والمصلحة العامة للمجتمع أو الدولة، ولا تتلاءم مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب وتم نشرها بالجريدة الرسمية”؛ بل إن “المشرع خالف تلك المبادئ إما بشكل معتمد، أو أنه انزلق إليها بغير قصد، الأمر الذي يتطلب إنهاء المخالفات الدستورية من طرف المحكمة الدستورية، لأن تنظيم وتحديد الحقوق والحريات وإن كان من ولاية المشرع، فإن يخضع للرقابة المباشرة للقضاء الدستوري”.
جاء هذا في دراسة مفصلة بعنوان “مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02 ‘عدوان تشريعي’ على المبادئ الدستورية المتعلقة بحقوق الدفاع والحق في التقاضي والحق في محاكمة عادلة.. قراءة تأصيلية تحليلية”، ومن بين ما ورد فيها تذكير بـ”مهام رسالة الدفاع، تقتضيه شروط المرحلة، التي تتميز بالاحتقان الناتج عن أعمال الحكومة أو من في حكمها، والتي يفهم منها أنها تستهدف مهنة المحاماة، دون الإفصاح عن الأسباب والخلفيات صراحة؛ لكن بإعمال قراءة موضوعية لخطاب الحكومة أو وزير العدل أو رئيس مجلس النواب، نخلص إلى القول بوجود من يسعى إلى ‘شيطنة’، المحاماة كمدخل من أجل احتوائها، وتركيعها، عن طريق مباشرة الوسائل التشريعية والإدارية والقضائية”.
مواجهة مهنة المحاماة
من بين ما تذكره دراسة مصطفى بن شريف أن “المحاماة مهنة حرة، مستقلة، جزء من أسرة القضاء، وجناح من جناحي العدالة، تساهم في تحقيق الأمن القضائي، والدفاع عن الحقوق والحريات والنهوض بها، والمحامون بهذه الصفة يعتبرون شركاء للسلطة القضائية في تثبيت أسس دولة القانون وسيادة القانون، والدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم”.
وتتابع: “هكذا، فمن الطبيعي أن يتمسك المحامون بالمغرب بأن تظل مهنة المحاماة حرة مستقلة؛ لأنه لا يجوز أصلا لغير المحامين مزاولتها، خلافا لما ورد في مشروع قانون المسطرة المدنية، وهو المبدأ الذي ورد في جميع القوانين المنظمة لها منذ الاستقلال، التي عرفت خمسة قوانين: 1959 و1968 و1979 و1993 و2008، ولا يجوز للقوانين الإجرائية أو الموضوعية التعدي على المراكز والمكتسبات المهنية التي راكمتها مهنة المحاماة”.
وتزيد: “من جهة أخرى، إن هيئات المحامين بالمغرب (نقباء ومجالس وجمعيات عمومية)، إلى جانب جمعية هيئات المحامين بالمغرب كإطار تنسيقي ومجال للتشاور، وتوحيد الموافق، والتوافق على القرارات في القضايا المهنية والتشريعية، والوطنية، لم تتردد في يوم من الأيام في الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية، والحقوق والحريات والديمقراطية والإصلاحات الدستورية، ولا يزال دورها نشيطا، وازنا، وفاعلا، تؤمن بالحوار الديمقراطي، واحترام الرأي والرأي الآخر، لذلك لا يمكن تهميش المؤسسات المهنية، لما يتعلق الأمر بالشؤون المهنية أو بتشريع القوانين الإجرائية والموضوعية”.
ويؤكّد بن شريف أن “مسؤولية المحاماة لا تقل أهمية عن مسؤولية القضاء؛ وذلك بالنظر إلى كونهما يمثلان جناحي العدالة، وفي تحمل مسؤولية الحفاظ على مقومات العدالة كل من موقعه، في إطار استقلالية كاملة بين القضاء والمحاماة في أداء رسالتهما وفي ضمان الأمن القضائي”.
ثم أردف قائلا: “نظرا لمكانة المحاماة وأهميتها في الحياة العملية والمجتمعية، ودورها المحوري في زرع ثقافة حقوق الإنسان، والتواصل مع جميع مؤسسات الدولة في إطار علاقة تكامل مع رسالتها النبيلة، القائمة على الدفاع عن الحقوق والحريات، والمساهمة في بناء دولة القانون، (…) لم يعد ممكنا للحكومة أو البرلمان أو السلطة القضائية معالجة القضايا المهنية والتشريعية دون تعاون مع الهيئات المهنية ومع جمعية هيئات المحامين بالمغرب، وإشراكها في إعداد القرارات ومشاريع القوانين ذات الصلة بالممارسة المهنية”؛ فـ”عدم التفاعل إيجابيا مع انتظارات المحامين والمتقاضين، أمر يتعارض مع مقاصد دولة القانون، والديموقراطية التشاركية التي تعتبر مبدأ دستوريا، وكل إنكار لذلك يترتب عنه احتقان لا يمكن التنبؤ بنتائجه”.
وكتب المحامي أن “التشريع الضريبي، ونظام التغطية الصحية، ومشروع قانون المسطرة المدنية، ومشروع قانون المسطرة الجنائية من بين الوسائل التي يتم تسخيرها في مواجهة مهنة المحاماة، وكأن رسالة الدفاع تمثل “معارضة سياسية راديكالية” بقناع حقوقي”، ثم استدرك قائلا: “لكن، ومهما يكن من أمر، فالحكومة تمارس السلطة التنفيذية، والبرلمان يمارس السلطة التشريعية وفقا للشكل المبين في الدستور، عن طريق إصدار تشريعات التي يجب أن تكون مطابقة لأحكام النصوص الدستورية، وإلا تعرضت للحكم بعدم الدستورية”.
الحق في التقاضي
يوضح مصطفى بن شريف أن بعض مواد مشروع قانون المسطرة المدنية “تمثل وبحق تعديا على مبدأ المساواة بين الأفراد أمام القانون، والتحيز لمصلحة فئة معينة، علما أن القاعدة القانونية يجب أن تكون عامة ومجردة؛ الأمر الذي يفقد المشروع صفة التشريع أو القانون، لأن البرلمان مقيد بالدستور بوصفه يمثل السلطة التشريعية التي من مهامها تحقيق المصلحة العامة، وليس الدخول في “صراعات سياسية”، وفي تنازع مع المحاماة عن طريق تسخير التشريعات كوسيلة “للردع” دون سبب مشروع”.
ويضيف: “كل نص تشريعي يخالف النص الدستوري هو نص باطل، وغير دستوري، لمخالفته القواعد الدستورية التي تحميه. ولذلك، فإن الأصل في التشريع أن لا يقيد الإجراءات في التقاضي، أو وضع عراقيل أمام المتقاضين عن طريق جزاءات مالية أو غيرها من القيود”.
كما يذكر أن “المشرع الدستوري، وإلى جانب تقرير حق التقاضي للأشخاص كافة (مادية أو اعتبارية)، كمبدأ دستوري أصيل، نص أيضا على مبدأ حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، وكذا عدم جواز إصدار قوانين تتضمن مقتضيات مخالفة للدستور، احتراما لمبدأ سمو الدستور الذي يعتبر من المبادئ الملزمة، لأن تحقيق الأهداف الواردة في الدستور يجب أن يتم دون الإخلال بالمبادئ الدستورية، أي أن مراقبة دستورية القوانين – شكلا وجوهرا- تستلزم استحضار المقاصد التي ابتغاها الدستور، سواء بالانتقاص أو بالتوسع أو بإضافة قاعدة جديدة”.
وتذكّر الدراسة بأن “الحق في التقاضي وحقوق الدفاع، والحق في محاكمة عادلة، هي من الحقوق المضمونة بموجب الفصلين 118 و120 من الدستور”. وفي هذا الإطار، “تعتبر الدعوى هي الوسيلة القانونية التي أقرها المشرع الدستوري، لكل شخص اللجوء إلى القضاء، لحماية والدفاع عن حقوقه من الاعتداء عليها أو المطالبة بها”. ويستخلص من عمل المحكمة الدستورية، أنها قررت مبادئ عديدة مستمدة من أحكام الدستور، وتتعلق بضمانات ممارسة الحق في التقاضي وحقوق الدفاع، التي تشمل “ضمانات احترام حقوق الدفاع”، و”ضمانات احترام شروط المحاكمة العادلة”.
واستحضرت الدراسة أيضا قرارات لمحكمة النقض نظرا لكونها “أعلى هيئة قضائية في المملكة، تتمثل وظيفتها في مراقبة العمل القضائي للمحاكم، ومعاينة مدى تقيدها بحسن تطبيق القانون تطبيقا سليما على المنازعات المعروضة عليها، ومن أهدافها توحيد العمل القضائي، بمناسبة النظر في الطعون بالنقض ضد الأحكام والقرارات الانتهائية”، ومن بينها أن “عدم تمتيع الطاعن بالضمانات التأديبية المنصوص عليها في القانون يعتبر خرقا لحق الدفاع الذي يعتبر من المبادئ العامة للقانون”، و”عدم تنصيص القانون الداخلي لمؤسسة عمومية على إمكانية تنصيب المستخدم المتابع تأديبيا لمحام قصد الدفاع لا يعني هذا حرمانه من حق الدفاع، ما دام هذا الحق من المبادئ العامة التي تسمو على القوانين الداخلية”، و”عدم تبليغ المحكمة للمذكرة الجوابية المرفقة بوثائق حاسمة إلى الطرف الخصم يجعلها خارقة للحق في الدفاع”، و”عدم عرض وثيقة مدرجة بملف القضية على أطراف الدعوى لتحديد موقفهم بشأنها تعتبر بمثابة خرق لحق من حقوق الدفاع الموجبة للنقض”، و”إذا تقرر إخراج الملف من المداولة وأعيد إدراجه بالجلسة وجب على المحكمة أن تستدعي الأطراف من جديد وتتحقق من توصلهم بالاستدعاء تحت طائلة النقض”.
خروقات دستورية
من خلال استقراء المواد الواردة في مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02، رصد المحامي والأستاذ الزائر مصطفى بن شريف وفصّل في مخالفات دستورية في المواد رقم 10، 17، 30، 31، 32، 62، 76، 78، 93، 95، 96، 99، 256، 259، 314، 340، 353، 375، 376، 377، 409، 425، 502، 552، 571.
ومن بين ما نبّهت عليه الدراسة “تنكر المشرع لمبدأ الأمن القانوني ولمبدأ الأمن القضائي، إما إغفالا أو عمدا”، و”خرق مبدأ دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها بوصفها قواعد ملزمة للكافة”، و”التعدي على مبدأ ممارسة مهنة المحاماة للمساطر القضائية وغير القضائية”، و”المساس بمبدأي استقلال المحاماة وحصانة الدفاع”، و”تحميل المحامي التزامات تتعارض مع قيم مهنة المحاماة ومع المركز القانوني للمحامي، والتي ليست من مهامه أو من واجباته”.
كما بيّنت الدراسة المواد التي فيها “خرق مبدأ المساواة بين المتقاضين”، “خرق مبدأ مجانية التقاضي”، “خرق مبدأ الحق في التقاضي”، “خرق مبدأ الحق في محاكمة عادلة”، و”خرق مبدأ حقوق الدفاع”.
وكتب بن شريف أن قانون المسطرة المدنية يظل هو “الشريعة العامة للتقاضي، الذي ينظم الإجراءات القضائية وغير القضائية، يبين كيفية توزيع الاختصاص بين جهات القضاء المختلفة، ويرسم القواعد المتعلقة برفع الدعاوى، والشروط الواجب توفرها في المقالات والطلبات، وبيان كيفية إدارة الدعوى، وآجال تقديم الدفوع والطعون، وكيفية إصدار الحكم وشروطه، وتحديد شروط تنفيذ الأحكام القضائية والإشكالات التي قد تعتريها”.
ثم أردف قائلا: “من المعلوم أن الدستور يتكامل في مبادئه وأهدافه، ولذلك لا يجوز للمشرع أن يصدر تشريعات تتعارض مع المبادئ والأهداف المنصوص عليها في الدستور، والملاحظ بأن مشروع قانون المسطرة المدنية، أنه قيد حقوق الدفاع والحق في التقاضي، والحق في محاكمة عادلة، لما عمد إلى استحداث نصوص تحد من الحق في الولوج إلى العدالة، وإقامة تمييز بين المتقاضين، وتعطيل تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة ضد أشخاص القانون العام”.
هذه الحالات وغيرها، حسب المصدر ذاته، “تؤكد قيام مخالفة دستورية لا يمكن تبريرها بمنطق “السلطة التقديرية للمشرع”؛ لأن الأمر لا يتعلق باختيار تدابير تشريعية مقررة في الدستور، مما يترتب على ذلك عدم دستوريتها”، ثم إن “من صلاحيات المحكمة الدستورية مراقبة مشروع قانون المسطرة المدنية عند إحالته عليها من طرف أصحاب الصفة، لأن الدستور يتسم بالسمو على جميع القوانين. لذلك، من الواجب تطبيقه نصا وروحا، وهو المبدأ الذي يتعين على المحكمة الدستورية مراعاته بمناسبة نظرها في القضايا التي تعرض عليها”.
وكتب مصطفى بن شريف أن “البرلمان مدعو إلى أن يستحضر، بمناسبة مناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية رقم: 23.02، القواعد والمبادئ الدستورية المشار إليها (…) من أجل ضمان إصدار قانون مطابق للدستور، وخال من مثالب عدم الدستورية”. كما أن “المحكمة الدستورية معنية بحماية الدستور الواجب التطبيق في نصه وروحه؛ وهو ما يتعين عليها مراعاته بمناسبة نظرها في جميع القضايا التي تعرض عليها، والتي من المرتقب أن يحال عليها مشروع قانون المسطرة المدنية رقم: 23.02، لأن الدستور له السمو على كل من عداه، ويتعين على الجميع مواطنات ومواطنين ودولة، التقيد بأحكامه ومبادئه”.
وختمت الدراسة بقول: “لا يجوز للمشرع أن يعطل جوهر الحقوق والحريات التي يحميها الدستور، بعلة تنظيم هذه الحقوق، بالحد من مداها؛ بل ينبغي أن يتم ذلك وفقا للدستور، وليس من أجل غايات سياسية، لأن الحقوق (الحق في التقاضي، الحق في الدفاع، الحق في محاكمة عادلة)، تؤطرها قواعد موحدة. ولذلك، لا يحق للمشرع أن ينال منها، أو يحد منها أو يعطل النفاذ إليها؛ الأمر الذي يعتبر إخلالا صريحا للحماية التي يكفلها الدستور لتلك الحقوق جميعها”.
المصدر: وكالات