أربعة أصياف طويت مُذْ رحلت سيدة المسرح المغربي ووزيرة الثقافة ثريا جبران، مخلّفة مسارات فعل متعدد، على الخشبة والشاشتَين الكبيرة والصغيرة، والسياسة أو الخطابة.
ثريا جبران، أو السعدية قريطيف في البطاقة الوطنية المغربية، أحد أبرز الوجوه الفنية بالمغرب، تركت رسالة حياتها مكتوبة سنوات قبل الرحيل، وعمّمتها ذات “يوم عربي للمسرح”، شاهدة على قدومها “إلى المهنة الجميلة والمكان الدافئ والناس الرائعين، في سنٍّ مبكِّرة جدّاً (في الثانية عشرة تحديداً). وبقيتُ هناك. بقيت أَسْمَعُ الأَصوات وأُسْمِعُها. وأَتمثَّلُ كلام الآخرين كما لو كان كلامي، بل حرصتُ دائماً على أن أجعلَه كلامي لأقوله لآخرين. كان دَوْري كممثلةٍ أن أَمْتَصَّ هذا الكلام، أَتَشرَّبَهُ، أَسكُنَهُ وَيسكُنَنِي كي أقولَهُ بصدقٍ وأُخْرِجَه كالشَّرَارِ حَارّاً مع أَنفاسي وروحي، مع صوتي وصمتي.”
وتابعت: “منَحْتُ العُمْر للمسرح. ما قضيتُه من سنواتٍ على الخشبات، وفي المسارح المغربية والعَرَبية والأجنبية، أكثر مما قضيتُه في بيتي وبين أفراد أُسْرتي الصغيرة. اتَّخذتُ المسرح مَسْكَناً وأهل المسرح أَهلاً، وتهْتُ طويلاً في النصوصِ والشخوصِ والأَقْنِعَة والأحلام والخيال. وكانت سعادتي في كل عملٍ جديد، وكان الفرحُ يتَجدَّدُ مع كلِّ لقاء جديد. وطبعاً، كان هناك الكثيرُ من الألم في طريقي.”
وروت الشهادة عن المسرح كونه “فَنَّ الحقيقة بامتياز”، ولكنَّ “حقيقةَ” المسرح “ليست كحقيقة الخُدَع السينمائية، ولا حقيقة التلفزات التي تحجُب الرؤية، ولا حتى حقيقة المطابخ السياسية السائدة، حيث تُعَدُّ الوصفاتُ والتَّوابِل، وتُطْبَخُ الطَّبْخَاتُ على نار هادئةٍ في المختبرات والكواليس الدولية- كما كتب الشاعر الراحل محمد الماغوط- ثم يأكُلها الكبار في الغرب والشرق، بينما يكتفي العَرَبُ بغَسْلِ الصُّحُون!”، وذكّرت هنا “بالأخص” بـ”العَرَب الذين لا يريدون العودة إلى التاريخ بعد أن خَرجُوا منه.”!
وواصلت: “المَسْرَحُ فَنُّ حَيَاةٍ. فنحن نَخْلُقُ المسرح بِقَلْبِ أَشياءِ الحياة إِلى مَشَاهِدَ، وبالمبالغةِ، قليلاً أو قليلاً أكثر، في تمثيلها، سواء بتعظيمها أو تَحْجِيمها. فلا حياة إِذَن لمسْرَحٍ إِنْ لم يَكُنْ فنَّ حياة، ومسرَحَ حَيَاة. المسرَحُ، أولاً، إِيمانٌ بقيَمٍ ومُثُلٍ وفَضَائِلَ قبل أَن يكون نَصّاً لمؤلِّفٍ، يُخْرجُه مُخْرِجٌ، ويلْعَبُه ممثِّلون وممثلاتٌ، وتُكْمِلُه اجتهاداتُ التقنيين وعمالِ الخَشَبة.”
المسرحُ، بالنسبة لجبران، “كتيبةٌ كاملةٌ من الإِراداتِ الخَيِّرةِ التي تَصْنَعُ الجَمَال وتنتج المَعْنَى الجميل فتوفّر للنّاسِ فُرْجةً جميلةً، في وَقْتٍ جميلٍ، في مكانٍ جميلٍ”، وهو كذلك “شُخُوصٌ متَخيَّلَة يُوفِّرُها الواقع والكتابةُ. وقد تكون شخوصاً رئيسيةً أو ثانويةً أو مجرد “كومْبارسْ”، لكنها تَحْضُر كُلُّها بأَجسادِها وبأَرواحها، بالكلام والصمت، بالحركة والإِيماءة، لِتُوصِلَ أَفكاراً حَيَّةً إِلى أُنَاسٍ أَحياء.”
هذا المسْرَحُ، الذي تنتظم كتيبة كاملة لصنعه، “علاقةٌ قَائِمةٌ على نَوْعٍ من التَّعَاقُد والتَّفَاوُض الدَّائم، إِنْ شِئْنا، بين الفنان والجمهور في إِطار من التبادل الجميل”، وليس تصفيقاً، وإنما “هو تَفَاعُلُ صِدْقٍ مع صِدْقٍ”، و”إِنصاتٌ وصَمْتٌ وتَأَمُّلٌ وسكينَة. فضاءٌ للأَمل، وحتَّى حين يَيْأَس المسرحُ يكونُ يَأْسُه خلاَّقاً ومُدْهِشاً وحيّاً، وليس عَدَميّاً أو سلبياً.”
المسرح كلّ هذا وأكثر، حسب مريدته، فهو “ثقافة واستثمار ثقافي، خيالٌ وتقْنية وصناعة حضارية وإِنسانية”، و”هندسةٌ للأرواح الجديدة”، و”مَشْهَدٌ يُجاورُ مشهَداً، مَشْهَدٌ يُخَاطبُ مشهداً، ومشْهَدٌ يكملُ مَشْهَداً، تماماً كما تُجَاوِرُ الكلمةُ كلمةً أخرى في القَصيدَةِ، والصُّورَةُ صُورَةً أُخْرى في الفيلم السينمائي، والحركةُ حركَةً أخرى في أَيِّة رقصةٍ جميلةٍ أو تعبيرٍ جَسَدي، والإِيماءةُ إِيماءَةً أخرى في لحظةِ صَمْتٍ.”
المَسْرَحُ “أب الفنون، كائنٌ حيٌّ ينْتَبِهُ إِلى التناقُضات فَيَقُولها، وإِلى التَّوازُنَاتِ فَيُضيئها، وإلى الاعْوِجَاجَاتِ فَيُعرِّيها، وإلى الهزائم فَيُسَمِّيها”، وهو نَفْسُهُ “مهنةُ هَزَائم صغيرة، ومهنةُ انتصاراتٍ صغيرةٍ أَيضاً. وهو يأتي بالماضي إِلى الحاضر، ويَذْهَب بالحَاضِرِ إِلى الماضي. إنَّ الزَّمَنَ كُلّهُ لَهُ. نحن نمضي، ويبقى المسرح. دائماً، وسَيتَّجِهُ دائماً صَوْبَ المستقبل كاشفاً الطريق، راسماً الخطوة أمام الناس.”
وعن لحظة الحراكَات بالمنطقة المتحدّثة باللغة العربية، ذكرت الوزيرة الراحلة: “اليوم، في الزَّمن العَرَبي الجديد، في رَبيعِ الانتفاضات، نتذكَّرُ المَسْرَح كما تَذكَّر شَبَابُنَا الأَغاني والأَناشيد والرَّقْصَ والتَّجمُّع والتَّظَاهُر والهُتَاف. وسيكون علينا أن نُبْدعَ مَسْرحاً عَربياً جديداً يتجاوَبُ مع الروح العَرَبية الجديدة، على أَلاَّ يكون مسرحاً سريعاً وخطابياً وشِعَاريّاً. فلا مجال لمسْرَح المناسبات والمواسم.”
واسترسلت قائلة: “لقد كان مسرحُنا العَرَبي الحقيقي ثورياً قبل الثوراتِ العَرَبية الجديدة. ولا شَكَّ أنه كان مصدراً من مصادر وَعْيِها، فَسَبقَ الثَّوْرةَ إِلى فِكْرَتِها (…) خَرَج شبابُنَا من معاناتِهِ مثلما خَرجَ من مسرح سعد الله وَنّوس ومحمد الماغوط وروجيه عساف والطيب الصديقي ويوسف العاني وقاسم محمد وفاضل الجْعايْبي وشريف زياني عياد، ومحمد بن كَطَّاف وسميحة أيوب ونضال الأشقر وجليلة بكّار وسونيا وسعد أَرْدَش وألفريد فرج وجواد الأسدي وغيرهم من كبار نجوم المسرح العربي… كما من روايات نجيب محفوظ، وقصص يوسف إِدريس، وشِعْر أبي القاسم الشابي، ومحمود درويش، وأحمد فؤاد نجم، وأمل دنقل، ومُظفَّر النواب… ومن الشعر الشفوي، ومن أغاني أم كلثوم، والأَخوين الرَّحْباني، والسيدة فيروز، والشيخ إمام، ومارسيل خليفة، وناس الغيوان، وكذا من السينما والدراما التلفزيونية العربية الجديدة، ومن عقول المفكرين الأَحرار والفاعلين الشرفاء الذين مارسوا التفكير بأخلاق والسياسة بنقاءٍ وجرأة، وبثقة في التاريخ وفي إِرادة الجماهير.”
ثريا جبران التي قالت إن المسرح “فَنُّ حقيقة”، أكّدت أيضا أنه “فَنُّ الشَّكِّ”؛ فالمسرحُ “تعبيرٌ عن الشك بامتياز. الشَّكُّ الذي يُوقظ الوعي والسؤال.”
الراحلة التي عاشت المسرح وكانَته، هتفت في حياتها: “عَاشَ المسْرَحُ العَرَبي جَادّاً وجَديداً ومُجدِّداً على طريقِ الوعي، ونُبْلِ الرسالة، وحُسْنِ المَقَاصِدِ. المجدُ لشهداء وشهيدات الحرية والكرامة في الشارع العَرَبي، لِكل تلك المشاعل التي أَضاءَت وتضيءُ ساحَةَ مسْرَحِنا العَرَبي الكبير المُمْتد من ماء الخليجِ إِلى ماءِ المحيطِ. عَاشَ مسْرَحُنا العَرَبي لمجد الأمةِ وأُفْقِها وآمالها. عاشَ أهلُ المسرح أَيْنَما كانوا، في الأَوطانِ أو في الشَّتَاتِ، صُنَّاعاً للجَمَال، رُعَاةً للحريةِ والحُلْمِ والتَّخيُّلِ والفِعْل الصادق الأَمين.”
وكان من بين ما ختمت به ثريا جبران وصيّتها قبل الرحيل: “هكذا تَعلَّمتُ المسْرَح. وتَعَلَّمتُ في المسرح أَنْ نَخْدُمَ الحقيقة، وأَنْ نشُكَّ فيها. فيَا حُمَاةَ الحقيقة اتَّحِدُوا، ويا جيل الشّك كنْ بالمرصاد.”
المصدر: وكالات