إن الرؤيات للجمال قد قامت على المعرفة الحسية، بينما الرؤية الصوفية له تقوم على المعرفة الحدسية وعلى الخيال الباطني، وإنه لَبَوْنٌ هائل وكبير ذلك الفرق بين الحدس والحس؛ فالأول يعني تلك الشحنة الوجدانية الهائلة والطاقة الانفعالية العارمة، والإشعاع النوراني الخاطف الذي يجتاز الحدود العَرَضِية والقشور المادية كي يستقر من دون أية مقدمات عقلية أو دلالات منطقية في عالم الحقيقة المطلقة. أما الثاني فمجرد صور واقعية محددة انطبعت في العقل الواعي نتيجة عمل فكري منظَّم، وحساب رياضي دقيق.
فالرؤية الحدسية ذات امتداد مخروطي، حيث تزداد اتساعا كلما ازدادت عمقا، وبالعكس. وليس هذا شأن الرؤية الحسية، فهي ذات امتداد أسطواني، ومن هنا جاءت سطحيتُها التي لا يفيد معها أي تعمق. وبناءً على هذا الأساس، نقول إن هذه الرؤية للجمال الموصوفةَ بالصوفية تعتمد في جوهرها على معنى الحدس، والحدسُ هو أكبر عين معرفية لدى الإنسان الذي شفَّت دواخله، واندغمت مشاعره مع الكون وكوائنه، إذ عن طريقه يمكن إدراك المطلق والجوهر الخالد، وهو إدراك لا يتحقق عن طريق العقل والمعرفة الحسية، بل عن طريق الكشف والمعرفة الحدسية. وهذا النوع من الرؤية يفوق الحس والفهمَ والتعقل، لأنه مؤسسٌ على مبدأ الروح الواحدة، ومن أهم أهدافه إعادة قدسية الجمال في كل تجلياته الكونية والإنسانية والإلهية، وهذه الغاية لا يتأتى بلوغها إلا بمعايشة الفكر الوجداني الذي يقوم على تعرية الإنسان من وهجه المادي وتجريده من قشوره، والاتصال المباشر بالجوهر المطلق، والتوحُّد مع العالم بكل مكوناته، والاندماج فيه كلية بعشق لا تفاضل فيه، والإحساس برهافته المضمَرة، بحيث تقول لحجر إذا عثرت فيه: عفوَك أيها الكائن؛ لم أقصد الإساءة إليك. والمَرْمَى من هذا كله هو الكشف عن الجوهر، والرمز إليه بواسطة الحدس لا الحس، معتمدا في ذلك على فيض التعبير التلقائي البكر المبني على التكثيف والشحنة العالية، حيث الأشكالُ والأحجامُ توحي ولا تُعرِّف، والألوان ترمز ولا تُحدِّدُ، والأشياء تُلمح ولا تصرِّحُ.
فالجمال الذي تكشف عنه هذه الرؤية هو فرحةُ الوجدان البشري حين ينفذ إلى أعماق الكون ومجاهيله لاكتشاف الأسرار بيدين من ضوء الشعور، دون أن نحاكم ما اكتشف بمعيار النفعية. إذ ما الذي يجمع بين قبة الفلك في دورانها وبين مَوَران الأمواج في المحيطات؟ وبين عزيف الرمال في الصحاري وبين هزيم الرعود بين أشجار الغابات؟ وبين الكاتدرائية الشاهقة المتصاعدة نحو السماء وبين المئذنة المستقيمة المندفعة في أجواز الفضاء؟ والسمفونية متوالية الأنغام الحاملة أعمق معاني اللانهائية؟ واللوحة الناطقة المصوِّرة قطاعا من الوجود الجلي أو الخفي؟ والقصيدة المشعة بكون لم يعرف من قبل؟. أليست هذه الأعمال المستقدمة إلى عالم الوجود مخلوقات جديدة لم تكن منتظرَة هي الجمال مجسَّدا لا يتطرق إليه الظن doxa؟!، وإن كان تحديد مفهومه بدقة متعذرا، إلا أنه في النهاية يبقى معرفة حدسية تُولدُ التسامي والكمال. فالحدس intuition نوع من أنواع الإدراك المباشر للوجود، يُكسبه صورة معينة تكون تعبيرا عنها Expression، سمفونية متناسقة الأنغام، تتجدَّدُ كلما نظرت بنظرها، وتنسج الهواء بالاختلاف الصحي لخفَّتها ورشاقتها.
وليس جديدا القول بأن الجمال ذاتي ومطلق في آن واحد؛ ولكن الجديد هو كون هذه الرؤية له محاولةً لدفع الإنسان إلى الوصول إلى المطلق، لا عبر الثيولوجية، وإنما عبر صور الحياة الروحية التي تعجز الفلسفة عن التعبير عنها. فالفيلسوفُ يُظهرهُ على اتحاد ما يبدو منفصلا في الطبيعة، وفي التاريخ، عن طريق وحدة الفكر والطبيعة، ووحدةِ العارف والمعروف، لكي تزول عنده متناقضات الوجود. بينما هذه الرؤية تُخرجه من هذا الموضوع المتناهي، وتضعه في مدار اللامتناهي أي المطلق، حيث يرى الجمال ممزوجا بالحق والخير، بين الضرورة والحرية، وكلما شاهده مصطدما بالحق أدرك أن ذلك الحق متناهٍ، وذلك لأن الحق عندما يكون لامتناهيا فإنه لا يتعارض مع الجمال.
فالوجود كله قائم على أساس فكرة جوهرية هي الجمال، والجمال صفة إلهية متجلية في الكون بأسره. وهو ذو وجهين: ظاهره العالم الدنيوي المتمثل بالطبيعة وكائناتها وأشكالها المتنوعة، وباطنه القيمة الإلهية المتجلية في الخالق. والعلاقة بين كل هذا كامنة في البحث عن جوهر الحقيقة المطلقة التي لا شكل له. ومن هنا، تجد أنه لا شيء يتطابق مع الحس الجمالي الإبداعي مثل اللغة بإيقاعاتها النغمية، فهي تتكون من الحدس السمعي والحدث التخييلي. ولذا، كانت حركيتها الإبداعية حركية انتقال من موقع الفعل إلى موقع القلب، أي إلى موقع الجمال الذي هو الظلُّ البعيد للفعل الإلهي؛ فكلمات الله مثلا تعبير جمالي عن إرادته وكليته الجمالية، ومطلقيَّته الجلالية، يتجاوب معها الإنسان بالحدس الذي في عمقه، وهو تجاوب رحماني بين الذهن والصورة، يتأمْثَلُ ارتسام التجلي المتعالي ارتساماً واعيا محسوساً، وذلك لأن الصورة الإلهية قائمة في وجودنا منذ الأزل، وفي الإنسان استعدادٌ خالص لهذا النوع من التجلي. أما الصورة العقلية فهي الصورة القائمة خارج وجودنا بفعل منا، ولهذا قال أبو حيان التوحيدي حينما سئل عن هذه الصورة إنها هي: “التي بها يخرج الجوهر إلى الظهور عند اعتقاب المصوِّر له”.
وعليه، فإن هذه الرؤية منطبعة بطابع الخيال الباطني، أي أنها حدسية بذاتها، تتحدث عن الجمال المطلق وعن الجمال الموضوعي، حيث تعتبر الجمال صفة لوجود الموجود، متعلقا بالكمال. ولذا، أسهبت في الحديث عن جمال مطلقِ الجمال، وجمال المعقولات، واختطت للنسبي سبُل الدنو من الجمال الحقيقي المطلق. فهي من هذه الوجهة رؤية خاصة منطلقة من تجارب وصيغ متنوعة الاختلاف والمشارب على مستوى كل ذات صوفية في تحولُها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام، يُصبح لديها ما هو مرئي غير منفصل قطُّ عما هو غير مرئي، مرتبطٌ به ارتباط الروح بالبدن، مما يعطي لكشفها هنا دلالتين:
1 ـ دلالة العالم على ذاته كشكل من الأشكال الوجودية المنجذبة إلى بعضها نسقيا وجماليا، وإلى المعنى المطلق.
2 ـ دلالة العالم على المعاني الإلهية المقدسة التي تتجلى فيه، ومن خلاله عروش الحقائق.
ومن تواشج وتضافر هاتين الدلالتين تولدُ الدلالة الأونطولوجية للكائنات بوصفها أشكالا وجودية، ودلالتها بوصفها صورا تتجلى فيها المعاني الإلهية. فكائنات العالم في هذه الرؤية ما هي إلا أشكال وجودية des formes Existentielles تدل على معان وحقائق خاصة بها. ولأجل هذا نرى أن التفكير في الوجود، وفي جماله، من خلال الحضور المادي للأشياء فيه دون سواها لن يؤدي مطلقا إلى فهمه، إذ لا بد من استحضار الحضور الإلهي فيها؛ فحضورها محكوم بهذا الحضور وفقا لجدلية الظاهر والباطن التي تستدعي وتُحيلُ، تكشف وتحجبُ، بمعنى أنها تنفتح على الحضور والغياب، وتجمع بين المرئي واللامرئي. ومن هنا، كانت الحاجة ضرورية إلى هذه الرؤية؛ لأنها تنهض على الوحدة والعشق والانسجام، وعلى الجدلية الحيوية، فهي ترى أن كل الحقائق؛ وضمنها حقيقة الجمال؛ هي سماوية/ أرضية. فما يظهر لنا أرضيا هو في باطنه سماوي، وما يظهر لنا كذلك سماويا هو في باطنه أرضي، لأن العلاقة بين السماء والأرض هي علاقة محبة ووحدة في البدء. فالمعرفة هي هدية الله للإنسان {وعلم آدم الأسماء كلها}، وبها تأهل ليكون خليفة الله في الأرض، وصانع الجمال فيها، لأن دائرة العلاقة اكتملت بينه وبين الله بطاقة المعرفة التي هي عبادة وارتقاء جمالي، لا وجود فيها لثنائية الصراع أو فكرة المقدَّس والمدنَّس. فالحياة لها سمة الدينامية، وهذه الدينامية تقتضي الحركة وتوليدَ الطاقة لاستمرار الحركة، وهذا لا يتم إلا بالاحتكاك والمقابلة، وهما لا يمثلان صراعا وتضادًّا، وإنما هما مجاهدة، والمجاهدة أمرٌ داخلي يقوم في النفس بين نوازع الحق والسمو، وبين نوازغ الضلال والهبوط. ففي إطار الثنائيات الصراعية يبرز التحدث عن ثنائيات الشكل والمضمون، الله والإنسان، السماء والأرض طبيعيا. أما في إطار هذه الرؤية فإنه لا وجود لمثل هذه الثنائيات في الشكل والمضمون، والجوهر والعرض، والنفس والجسد، والله والعالم، والمادة والروح، واللفظ والمعنى. لأن الرؤية هنا لحقيقة الجمال أحدية صمديَّةٌ، لا أُحادية، تمثل التمام المطلق. فالأحادية مقبرة للتوق والإبداع والحرية، أما الأُحَدية الصمدية فروح جمالية توليدية، تولد المتعدد، ومن المتعدد تنبثق الإبداعات والحريات فيوضات متتالية. ولهذا كان متعددُ هذه الرؤية واحدا. فواحدها هو التمام المطلق الذي تتكامل فيه كل الإيقاعات المتعددة.
وإذن، فهذه الرؤية للجمال، وبهذا المعنى، هي قهرٌ للضرورة في الكون، وتمزيقٌ للحُجُب، قصد الوصول إلى الحرية التي هي فهمٌ لقوانين الحكمة التي يسير عليها الكون، وبذلك تتحول الضرورة التي كانت عمياء إلى ضرورة مبصرة.. تتحول إلى حرية البشر عندما يكتشفون تلك القوانين. فأعمق تحقيق للحرية هو في جوهره أكمل معرفة بالضرورة. وهذا هو منبع الرؤية التي نتحدث عنها، والتي هي صُوفِيسْتَانْ (= أرض الصوفي)، ما ينفك يرتحل فيها، مكتشفا ما لم يُكتشف بعدُ، وكاشفا عمَّا أضمرته الرؤيات الأخرى لِتَسْيِيدِ براءاتها، وتخصيب مفاعيلها في الأرض والإنسان.
هي رؤية جامعة للمتضادات، تكشف ولا تُضمر، للجمال عندها حضوراتٌ متعددة، معانيه وتجلياتُهُ لها توسُّعاتٌ لا تحصى، ولأجل ذلك اعتمدت لمقاربة هذه الحضورات والتعددات والتوسعات القلبَ والعينَ والبصيرةَ والخيالَ وفق ميكانيزمات برزخية تجمع بين الظواهر المتعارضة، وبين الدلالات المتغايرة، وبين الأمكنة والأزمنة الفيزيقية والميتافيزيقية، وبين العدم المطلق والوجود المطلق، بين كل الحقائق والممكنات، بين الجواهر والأعراض. فهي ذات تنظر بوجهين، تقوم على ساقَي التأويل، وتهدف من كل ذلك إلى جمع السماء والأرض في ثوب واحدٍ منسوج بالعشق والحرية.
المصدر: وكالات