بعد أن ظلوا خارج تراب وطنهم الأم خلال سنة كاملة بأيامها ولياليها، إذ دفعتهم الظروف إلى البحث عن رغد العيش ومستقبل أفضل لأبنائهم، هاهُم مغاربة العالم يعودون من جديد لمعانقة التراب الوطني وزيارة الأهل والأحباب، وبُغية عيش لحظات مفعمة باللمسة المغربية الخالصة، بعيدا عن المهجر وإكراهات “الغُرْبَة”.
وانطلقت الأربعاء عملية “مرحبا” التي تُشرف عليها “مؤسسة محمد الخامس للتضامن” بهدف استقبال هؤلاء المغاربة عبر المنافذ البحرية والجوية للمملكة، محمّلين بطموحات واسعة لعيش عطلهم على محدوديتها بالبلاد، وهو تقليد دأبت عليه الأجيال الأولى من المغاربة المهاجرين خصوصا إلى أوروبا، في وقت تحل بعد أيام معدودات مناسبةُ عيد الأضحى وما تحمله من رمزيات مجتمعية وإنسانية، على أن يليها شهرا يوليوز وغشت، قبل العودة مجددا مع بداية شتنبر بحكم الارتباطات الدراسية والمهنية.
وتتوقعُ مؤسسة محمد الخمس للتضامن أن “يكون هذا الموسم استثنائيا بالنظر إلى حجم الجهود المبذولة لإنجاح هذا الموعد السنوي، من خلال تعبئة ما يصل إلى 1400 إطار للمشاركة في استقبال الجالية، بما يشمل مساعِدَات اجتماعيات وأطرا طبية وشبه طبية، في وقت وصل عدد المستقبَلين في إطار عملية ‘مرحبا’ السنة الماضية إلى 3 ملايين و126 ألف مغربي توافدوا على المملكة من مختلف أقطار العالم”.
تنسيقٌ جماعي
تُسخر المؤسسة المذكورة كوادرها كل سنة لإنجاح عملية “مرحبا” التي تروم تسهيل دخول الجالية المغربية إلى وطنها الأم وحُسن استقبالها في ظل مساهماتها المتواصلة في النهوض بالاقتصاد الوطني عبر الاستثمارات والتحويلات المالية التي دائما ما يصفها مكتب الصرف بـ”الجيدة” وأحيانا بـ”الاستثنائية”.
ويبلغ عدد المغاربة القاطنين بالخارج ما يفوق 6 ملايين نسمة، موزعين على أزيد من 100 بلد استقبال، مليون و107 آلاف منهم دخلوا السنة الماضية الترابَ الوطني في إطار عملية “مرحبا” عبر أربع نقاط مينائية ونقطتين حدوديتين بمعدل 54 في المائة من إجمالي الوافدين؛ في حين أن مليونا و459 ألفا منهم نزلوا بتسعة مطارات بالمملكة، بما يصل إلى 46 في المائة من النسبة الإجمالية.
وتشتمل منظومة الاستقبال “مرحبا” على 24 مركز استقبال تديرها مؤسسة محمد الخامس للتضامن، 18 مركزا بالمملكة و6 بالخارج، بكل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، تتموقع بالنقاط المينائية لسِيتْ ومرسيليا وجن والجزيرة الخضراء وألميريا وموتريل، في وقت تنخرط في إنجاح هذه العملية السنوية عددٌ من الوزارات إلى جانب الأمن الوطني والدرك الملكي ومكتب المطارات والطرق السيارة والسكك الحديدية…إلخ
تنزيلٌ لفصول الدستور
ترى رقية أشمال، الأستاذة الجامعية بجامعة محمد الخامس بالرباط، الباحثة في شؤون الديمقراطية والمجتمع المدني، أن “هذه المناسبات تبين بجلاء الحكامة المغربية في التعامل مع الجالية وتيسير دخولها إلى أرض الوطن، في وقت باتت لهذه الجالية حقوق على مستوى الوثيقة الدستورية، بما فيها الفصول 16 و17 و18 و30 و163 التي تتحدث عن المواطنة الكاملة لهذه الفئة”.
وتشير أشمال، في إفادتها لهسبريس، إلى أن “الجالية تشكل قوة اقتصادية مهمة لكون تحويلاتها صوب المملكة وفقا لمكتب الصرف تظل مهمة، إذ وصلت سنة 2023 إلى 105 مليارات درهم، بارتفاع بنسبة 4,4 في المائة عن السنة التي قبلها، وهي أرقام تعكس بشدة حضور الجالية على مستوى الوثيقة الدستورية”، مبينة أن “هذه المجهودات تؤكد تكوين المؤسسات المغربية خبرة خلال السنوات الماضية، خصوصا من قبل مؤسسة محمد الخامس للتضامن، في التعامل مع هذه الفئة، ما يتعزز من جهة ثانية بمجهودات الوزارة الوصية ومجلس الجالية”.
وأمام كل هذه “الإشارات الخضراء” تورد الأكاديمية ذاتها أن “هذا الملف مازال بالحاجة إلى مقاربات جديدة، إذ توجد تعثرات تحاصر الجالية في تدبير ملفاتها العقارية والشخصية بالمملكة، وعليه بات من المهم جدا التمييز الإيجابي في ما يخض قضايا هذه الفئة، في ظل محدودية مكوثها بالوطن؛ فالظرفية تقتضي مناظرة وطنية تهم الاشتغال على قضايا المهاجرين كعائد ديمغرافي ودبلوماسي غير مواز يمارس أدواره بمناطق الاستقبال”.
تقليد مستمر ومناسبة للبهجة
بحسب محسن بنزاكور، الأكاديمي والخبير الاجتماعي، فإن “عودة المغتربين المغاربة بالخارج إلى المملكة في فصل الصيف أو في مناسبات دينية محددة يظل تقليدا سنويا أسس له الجيل الأول والثاني، وتلاهما الجيلان الثالث والرابع، وها هو اليوم الجيل الخامس كذلك ينخرط في هذه المسألة، لكن بنسب أقل من الأجيال السابقة بعدما ظهرت خيارات جديدة أمامه”.
ويؤكد بنزاكور، في حديثه لهسبريس، أن “التشبث بالأرض مسألة متجذرة في العقلية المغربية على طول الأزمان، إذ يتم اعتبار يوم العودة إلى الوطن يوم عيد وبهجة، بالنظر إلى كونه يظل نصيرًا للجماعة والالتئام المجتمعي الذي يُعرف به المغرب والمعبَّر عنه وطنيا بالقبائل والتجمعات السكنية بالدرجة الأولى”، موضحا أن “مناسبة كعيد الأضحى مثلا قلما تقضيها الجالية بالخارج بعيدا عن الأهل، وحتى إن حدث العكس فالتقاليد المغربية تطغى”.
ومن هذا المنطلق فعودة الجالية المغربية لملامسة التراب الوطني تظل “من بين خصائص الفرد المغربي الذي مازال إلى حدود الساعة متشبثا بالحضن الأسري وحريصا على استدامة علاقته بوالديه رغم الإكراهات والظروف، فيما يسير العالم في الوقت الراهن في اتجاه الفردانية”، وفق الخبير ذاته.
وينتصر الخبير الاجتماعي لـ”وجود أبعاد إنسانية في التشبث المغربي بالأرض، خصوصا لدى الجالية التي تجدد علاقتها بأصولها كلما سنحت لها الفرصة، فحتى ارتساماتها بعد وصولها إلى الموانئ المغربية تنطوي على تشبث بالأسرة والأصل والتقاليد والوطن، في حين بدا جليا أن هذه الثقافة بدأت التراجع في فئة الجيل الخامس من هذه الجالية، وهو ما يطرح ضرورة تكثيف المجهودات في هذا الصدد لتعميق علاقته بالمملكة، سيرا على نهج السلف”.
المصدر: وكالات