عن منشورات دار الأمان، طبعة الرباط 2024، صدر للمؤرخ والأكاديمي إبراهيم القادري بوتشيش، الأستاذ الفخري بجامعة مولاي إسماعيل، كتاب جديد بعنوان: “الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن بين المرجعية الإسلامية والمواثيق الدولية.. حوار مجتمعي في ضوء خطة إدماج المرأة في التنمية ومدونة الأسرة”، في 280 صفحة موزعة على ثمانية فصول.
تبرز أهمية هذا الكتاب في تزامن صدوره مع النقاش المجتمعي السائد هذه الأيام حول تعديلات مدونة الأسرة، وتماهيه مع ما يسعى إليه المؤلف من ضرورة إنصات المؤرخ لنبضات مجتمعه، وجعل قضاياه في قلب اهتماماته، وإسماع صوته للرأي العام، حتى يكون له موطئ قدم في التفكير في قضايا الساعة، وحتى لا يقتصر النقاش على علماء الدين ورجال السياسة والقانون والصحافيين والأحزاب السياسية وأذرعها الدعوية والجمعيات النسائية.
يرى الدكتور بوتشيش أن إثارة سؤال الحرية النسائية المغربية وصِلَتِها بتعديلات مدونة الأسرة تستدعي حضور التاريخ في كافة مسالك وزوايا النظر والتحليل، بوصفه رأسمالا معرفيا مفسّرا، وخيطا ناظما للإجابات الممكنة حول توافق أو تصادم الحرية النسائية مع القوانين الوضعية والتشريع الإسلامي، ومدى انعكاس الموروث الثقافي والتاريخي والفقهي في صناعة الذهنية المؤسسة أو المؤولة للنصوص التشريعية الخاصة بالمرأة؛ بل إن جدوى المقاربة التاريخية تكمن أيضا في قدرتها على قراءة أحكام الشريعة الإسلامية والتفسيرات الفقهية الخاصة بحرية المرأة في تاريخيتها، وتفاعلها مع تحولات الظرفيات التاريخية، ومتغيرات الزمن.
ووفق ما ورد عند المؤلف، فإن الدراسة تفتح لأول مرة ملفّا ظل خافت الإضاءة في الدراسات التاريخية، ويتعلق الأمر بملفّ الحرية النسائية في ضوء الجدل الصاخب الذي خلفه مشروع “خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، وما تمخض عنه من انقسام في المجتمع المغربي من أواخر سنة 1999 إلى مشارف سنة 2004. ومع أن هذه المدة كانت مرحلة تاريخية قصيرة الأمد، فإنها عبّرت عن بداية تحوّل في مسار طريقة التفكير في الحرية النسائية وتعدّد مرجعياتها، ووضعت أسئلة حارقة اخترقت فضاء علاقة الحرية بالدين والمقدّس، ولا تزال ترخي بظلالها على نصوص مدونة الأسرة. كما أنها حوّلت المرأة المغربية إلى ذات مفكرة، بعد أن كانت موضوعا للتفكير.
ويربط المؤلف تطور طريقة التفكير في الحرية النسائية في الزمن الراهن بظهور نظريات فلسفية حديثة في مجال الإبستيمولوجيا العلمية النسوية التحررية، خصوصا المقاربة النسوية التأويلية المتحررة من القراءة الحرفية التقليدية للنص الديني، والمقاربة الجندرية المتمردة على الذكورة، ثم نظرية “اللاندسكيب”، أو ما بات يُعرف بالجغرافيا النسوية.
يضاف إلى هذه المتغيرات الطفرة التي عرفتها بعض المفاهيم المستحدثة في مجال الحرية النسائية، وما تلاها من تغيّرات في قاموس مفرداتها؛ كحرية الجسد والمثلية، وغيرها من القضايا التي شغلت فضاء الدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة.
ومن ثمّ يرى أن “خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” جاءت في سياق هذه المتغيّرات الكونية والإقليمية المتسارعة، لتحفر مجارٍ جديدة في مفاهيم الحقوق النسائية بالمغرب، وتفرز خريطة ذهنية جديدة، ووعيا مغايرا وجسورا يحمل أسئلة مؤرقة، ولّدت مفاهيم جديدة حول الحرية الفردية والمسألة الحقوقية للمرأة؛ ولكنها اصطدمت بمطبات الانتقال للعقل الحداثي.
من جهة أخرى، فإن استناد مشروع “خطة إدماج المرأة في التنمية” إلى الاتفاقيات والصكوك الدولية شكّل هزّة قوية في مرجعيات التفكير في الحرية النسائية بالمغرب، بسبب ارتطام النص الديني والأعراف المحلية بالقانون الدولي. وفي الوقت ذاته، طرح تحديا كبيرا بخصوص سؤال انتقال قضية المرأة من دائرة السيادة المحلية والخصوصية المغربية إلى أفق السيادة الدولية التي أصبحت تفرض نمطها الثقافي المتعولم، وتزيد من تفتيت وتضييق مساحة السيادة الوطنية.
لذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن تُحْدِثَ هذه الخطة رجّة مجتمعية، وانقساما وجدلا في فضاء الرأي العام المغربي، وصل إلى حدّ توظيف معركة المظاهرات المليونية، والحشود البشرية، وتأليب شارع ضد شارع، في مسيرتين متعارضتين لم يشهد لهما تاريخ المغرب نظيرا من قبل؛ ناهيك عمّا أفرزه الحدث من كتابات متعارضة وتراشق لفظي وصلت إلى حد التكفير، واستمرت من سنة 2000م إلى بداية 2004م، تاريخ ظهور مدونة الأسرة الجديدة.
يركّز المؤلف على فحص مضمون خطة إدماج المرأة في التنمية ومطالبها لتمكين المرأة المغربية، ودراسة السياقات الداخلية والخارجية لظهورها، ثم وضع أفكار الأطراف المتدافعة حولها من إسلاميين وحداثيين تحت مجهر التحليل والنقد، وتشخيص وتحليل ردود الأفعال والمواقف المتولدة عنها، من خلال الوثائق والمستندات والأدبيات، وكافة أصناف الكتابات المدعّمة أو المعارضة لها.
وفي سياق المساهمة في النقاش الصاخب الذي أثارته الخطة ولا تزال تثيره مدونة الأسرة الحالية، سعى المؤلف إلى المساهمة في محاولة التقريب بين وجهتي نظر التيارين الإسلامي والحداثي، وتسريح النظر في ما وفّره التدافع بينهما من فرص لفحص طروحات كل طرف، لإيجاد منطقة وسطى، وبناء استراتيجية تقوم على تجريد مسألة الحرية النسائية من العباءة السياسية، والمسبقات الإيديولوجية والحزبية، وفكّ الارتباط مع منطق السياسة القائم على الربح والخسارة، وإنزالها إلى ساحة الرأسمال المعرفي، ونتائج العلوم الاجتماعية والإنسانية والبحوث الأنثروبولوجية والميدانية، جنبا إلى جنب مع العلوم الفقهية، واستثمار نتائج هذه العلوم لتحرير العقل والأفكار، قبل تحرير المرأة المغربية؛ فالحرية النسائية، كما يذهب إلى ذلك المؤلف، ليست إشكالية فقهية أو إشكالية قانونية فحسب، بقدر ما هي أزمة بنية ذهنية يتدخل فيها الموروث الثقافي وتتحكم فيها العقلية الذكورية والعادات والتقاليد المترسبة في بنيات العقل المغربي. كما دعا إلى التفكير بعقلية جماعية تشاركية تبادلية، للبحث عن المشتركات الفكرية التي تسمح بالتوافق، ما دام أن الحرية مطلب كل الأطراف.
ولإنجاح هذه الاستراتيجية التوافقية، يدعو الدكتور بوتشيش إلى تجديد الخطاب الديني، واعتبار الأحكام الشرعية أحكاما نسبية قابلة للاجتهاد، والاشتغال على الحقائق المعرفية والنصوص الدينية في تاريخانيتها، حتى تكون مواكبة للتحولات التي شهدها العالم الراهن؛ وهو أمر يمكن تفعيله إذا نظرنا إلى الأحكام الشرعية بمنظور عقلاني، ومن زاوية فقه المقاصد وفقه الواقع، والتحليل الملموس لخصوصية المجتمع المغربي المشبع بالروح الدينية، بما يصبّ في مصلحة المرأة وتنمية المجتمع المغربي. ولن يتأتى ذلك بمعزل عن تأسيس فهمٍ دقيق لدور الإنسان في تنمية العمران البشري القائم على مبدأ إنسانية المرأة، وأنها – مثل الرجل- كائن مكرّم دينيا، ومفضل على سائر الكائنات الأخرى، من دون تمييز بينهما.
وعلى العموم، فإن هذا الكتاب الجديد غني بأفكار رصينة، ومقترحات وتوصيات تستحق التوقف والتأمل؛ وهو ما لا يمكن إيفاء حقّه كاملا في هذه السطور، ولا يغني ذلك عن الرجوع إلى صفحاته التي تثير النقاش الفكري وتوفر متعة القراءة ولذة المتابعة.
المصدر: وكالات