تحقيقٌ في حلّة قشيبة، صدر في خمسة مجلّدات، لأبرز شروح القصيدة المعروفة بـ”الشمقمقية”، وهي من أبرز الأعمال الأدبية في التاريخ المغربي، نُظِمت أبياتها المائتان والخمسة والسبعون في القرن الثامن عشر، ومن بين شروحها العديدة شرح في القرن التاسع عشر لأحمد بن خالد الناصري السلاويّ المؤرخ والأديب والفقيه، صاحبِ أهم مصدر لتاريخ المغرب قبل الاستعمار “الاستقصا”.
حقّق ووثّق هذا العمل، الذي جاء تحت عنوان “زَهرُ الأفنان مِن حديقة ابن الوَنّان”، المحقّق أحمد بن عبد الكريم نجيب، وراجعه وقدّمه مدير الخزانة الملكية المحقّق أحمد شوقي بينبين، وأصدرَت طبعتَه الأولى منشورات “دارَة نجيبويه المعرفية”.
ومن بين ما ورد في قصيدة الشاعر أبي العباس بن الونان المعروف بابن أبي الشمقمق، وشرح الناصري الموسوعيّ لها، “زهور أدبية وبلاغية، ومستملحات لغوية، ووصف لمحاسن النساء، وتذكر للوصل والهجر، وتعريف بمشاهير علماء الحديث واللغة والتاريخ، واهتمام بعلم الأنساب والآثار والكيمياء، وألعاب مثل الشطرنج والنّرد، وذكر للأمثال وحكاياتها وأصولها، وتلخيص لمغازي الرسول، وذكر لملوكِ العلويين، وتعريف بالشاعر ووالده (أبي الشمقمق)، مع توسع في فن الموسيقى والغناء”.
أهمية الأرجوزة الشَّمقمقيّة
الأرجوزة الشمقمقية لأبي العباس بن الونان هي “من أهم وأعظم الأراجيز المغربية التي جمعت شوارد اللغة وفرائدها”، وفق المحقّق البارزِ مديرِ الخزانة الملكية أحمد شوقي بينبين، الذي بيّن أن هذا ما جعلها “موضوعا لمجموعة من الشروحات النقدية المغربية”، تجاوزت الثمانية.
وكتب الناصري، الذي ولع بـ”هذه المنظومة العديمة المثال، العزيزة المنال، الغريبة المنوال”، أنها “المنظومة التي أفرغ ناظمُها كنانةَ الأدب فيها ونثل، وسار ذكرها بين طلاب العلم ورواة الشعر سير المَثَل، حتى لقد أخمل ذكرُها ذكرَ ما تقدَّمها من المطولات والمقاصير (…) فلله درُّ ناظمها الذي جمع فأوعى، وحاول النظم فأجاد وضعا وأحسن صُنعا”.
أما مُراجِع التحقيق فكتب متحدثا عن الشاعر ابن الونان وشعره “صاغ الشاعر المجيد هذا المتنَ الشعري المتميّز بتعدّد روافده الإبداعية، الذي ناهز خمسة وسبعين ومائتي بيت، في مدح السلطان العلويِّ المولى محمد بن عبد الله بن إسماعيل. وقد اشتملت الأرجوزة الشمقمقية على غرائب الحِكَم والأمثال، وحوت الكثير من المواعظ والآداب، وأيام العرب وأخبارهم في الجاهلية والإسلام، وغير ذلك من الفنون والعلوم التي تَبهر العقول”.
والشمقمقية، حَسَبَ بينبين، “عمل إبداعي صرف ذاع صيته في تاريخ الآداب العربية مشرقا ومغربا، وأصبح نصّا متميّزا بمادّته وصنعته الشعرية، وملكة صاحِبها الإبداعية الخلّاقة”.
أما المحقّق أحمد بن عبد الكريم نجيب، فذكر في مقدمة “زهر الأفنان من حديقة ابن الونّان” أن “قصيدة ابن الونان التي عُرف بها وعُرِفت به هي دوحته المسمّاة بـ”الشمقمقية” الواقعة في خمس وسبعين ومائتي بيت، وتختلف نسخها التي وصلتنا في ترتيبها تقديما وتأخيرا، وتختلف أبياتها في الحبك والسبك، فبعضها أجود من بعض، وفيها من الحِكم والأمثال وأيام العرب ما عليه بالنواجذ يُعضُّ، ومن وحشيّ الألفاظ ما ندَّ ونضّ”.
وتابع “فيها من الأغراض الشعرية ثمانية عدّها وأوجز الكلام عليها العلامة عبد الله كنون (القرن العشرين) بين يدي تعليقه عليها”، وأوّل الأغراض “النسيب بذكر رحيل الأحبة، ووصف الإبل التي تحمَّلوا عليها والبيد التي تعسّفوها، ولوم الحادي على جده السير ليل نهار حتى أضرّ بالإبل ضررا بليغا، وتذكيره بمن يحملن على ظهورهن من النساء اللاتي لا طاقة لهن بذلك السير العنيف، وإظهاره شديد العطف على هذه الإبل حتى تبرع- وهو يُسِر حسوا في ارتغاء- بالريادة لها والقيام عليها أحسن قيام”.
أما الأغراض الشعرية الأخرى فهي على التوالي: التغزّل بصفات محبوبته وما هي عليه من فنون المحاسن وضروب المفاتن، والحماسة والفخر، ومخاطبة الحَسُود، والحكم والأمثال والوصايا، ومدحُ الشِّعر، ثم مدح السلطان، والختم بمدح الأرجوزة نفسها، وتحدّي الشعراء أن يأتوا بمثلها.
شرح بديع
يبيّن بينبين أن “هذه القصيدة الفريدة” دعت “الأدباء والنقاد المغاربة الذين كانوا يحفظونها عن ظهر قلب- بالرغم من طولها وصعوبة لغتها- إلى الكشف عن غناها وثرائها ومستويات بنائها اللغوية والدلالية والبلاغية والإيقاعية”، فشرحها “مجموعة من جهابذة العلم” أمثال أبي عبد الله الجريري السّلاوي، وأبي حامد المشرفي، وعبد العزيز الأدوزي، والمكي البطاوري الرباطي، وعبد الله كنون الحسني وغيرهم.
واسترسل بينبين مبيّنا أن من أعلام الأدب الذين اعتنوا بـ”الشمقمقية” وشرحوها “أحمد بن خالد الناصري، وهو مؤلف “الاستقصا”، وأُعجب بها أيّما إعجاب، فتولاها بشرح بديع”.
وتابع موضّحا “يمتاز هذا الشرح عن غيره من الشروح السابقة واللاحقة ويُكسبه قصب السبق عليها تبنّي الشارح رحمه الله لخُطّة منهجيّة في مجمل الشرح، بحيث كان يثير البحث في شرحه لكل بيت شعري مفرد أو وحدة شعريّة من القصيدة”.
ولهذا “جاء الشرح، على حدّ قول أحد النقاد، مستوعبا للعديد من القضايا اللغوية والبلاغيّة والنقدية والتاريخية والعلمية والمعرفية، وموظِّفا للشاهد في خدمة النصّ الشعري، عاكسا لثقافة صاحبه الموسوعية المحيطة بمختلف علوم العربية وغيرها”.
أما المحقّق أحمد بن عبد الكريم نجيب فذكر أن الناصري في شرحه لأرجوزة ابن الونان “لم يدع قولا لسابق ينتفع به المعاصر أو اللاحق مما يقوّي مذهبه اللغوي أو الأدبي إلا أتى به بين دفّتي كتابه، حتى صدق عليه الوصف بأن ما فيه نسج جديد بخيوط قديمة، أبدع في التأليف بينها وتقريب قاصيها أيّما إبداع، فلله درّه من نظّامة درّاكة متضلّع من بحور الشعر وفنون الأدب (…) للدلالة على علوّ كعبه، ورسوخ قدمه في علوم الشرع والآلة الموصلة إلى علومه، مع طول باعه وسعة اطّلاعه على أيام العرب في الجاهلية والإسلام، وأحوالهم، وأخبارهم، وأشعارهم، وحكمهم، وأمثالهم، وتاريخهم، وأمجادهم الطريفة والتليدة”، مع تميّز هذا الشرح بـ”كثرة استدلال مؤلِّفه رحمه الله بنصوص الوحيَين: كتاب الله وسنة رسول الله، مع تقديم الاستشهاد بآي الذكر الحكيم”.
وعمل المحقّق على تضمينِ الأجزاء الخمسة من “زهر الأفنان” تقديما للناظم، ونظمه، والشارح، وشرحه، مع كتابة متن القصيدة الشمقمقية، ومقابلة مكتوبها من نسخة نجيبويه بما يقابله في نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق الشام، واستنساخ شرح الناصري من طبعة حجرية بفاس، ثم مطابقة نصّ الشرح على ما في الطبعة، ومقابلته “حرفا حرفا، وكلمة كلمة على النسخة الشنقيطية”.
والتزم المحقّق نجيب بقواعد الخط والإملاء العصرية في الكتابة، وتحلية النص المحقّق بعلامات الوقف والترقيم، مع تمييز متن القصيدة “الشمقمقية” عن شرحها، وكتابة الآيات القرآنية المستشهد بها بالخط العثماني حسب رواية ورش عن نافع، وتخريج الأحاديث النبوية، وتمييز الشواهد الشعرية عن سائر الشرح، وعزو النقول والاقتباسات إلى مصادرها، وتذييل الكتاب بفهرسات عامة للآيات، والقراءات الشاذة، والأحاديث، والآثار، والحكم، والأمثال، والأعلام، والكنى، والألقاب، والمواضع، والبلدان.
المصدر: وكالات