وفي طريقي من جدة إلى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم داخل قطار الحرمين في بداية هذه الأيام العشرة الفضيلة، تذكرت ذلك الحوار الشيق مع الصديق الصدوق صلاح.. طرأ على بالي ذلك الحديث الإيماني بالتزامن مع خيالي أثناء طفولتي في مدينتي الحبيبة «طيبة الطيبة» التي عادة ما يغمرني على الدوام الشوق إليها.. فقد رسخ أهلنا فينا نحن أبناء المدينة حبها وحب من يحبها.. حبَّبوا إلينا الصلاة في المسجد النبوي الشريف.. وثبتوا في دواخلنا تولّع الإفطار على السُفْرة المدينية داخل الحرم.. تعمقت تلك المعاني داخلي إلى الآن حتى أنني كلما ذهبت إلى المدينة لا أوفت الإفطار على سُفْرة أختي الغالية التي تعدها سنوياً لإفطار الصائمين في رمضان داخل الحرم.. وحتى أسرتنا جمعيها لا تتأخر عن ذلك الإفطار التي يجمع عائلتنا في سفرة رمضانية في رحاب المسجد النبوي بأعمدته وقِبابه القديمة والحديثة.
هذه الكرامات الإلهية الرمضانية من العزم على التفرغ للعبادة في رمضان؛ تجعل كلٌ منَّا يعقد النية للاجتهاد التعبدي في شهر الصيام، وبعضنا يلجأ قدر المستطاع للعزلة الإيمانية ليزيد من رصيد إيمانه تقرباً لخالقه، فيزيد في العبادات والنوافل طمعاً في حب الله له.
تلك الفضائل الرمضانية الجليلة من الخالق سبحانه تهيئنا للاحتفاء بقَدَر ليلة عظيمة اختارها الله تعالى لبدء تنزيل القرآن (ليلة القدر)، فنحرص على إحيائها إيماناً وطمعاً في ثواب غفور رحيم يغفر لنا ما تقدم ذنباً (ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
أثناء ذلك السرحان الإيماني عن رمضان وفضائله المختلط بصرير صوت القطار؛ وصلتني رسالة تذكير من باحثة جامعية تستعجل طلباً لها سبقت وأن أرسلته.. تلك الباحثة الأديبة تريد أن تجعل مني محتوى وعنواناً لبحث تخرجها من الجامعة، فطلبت مني الإجابة على أسئلة مرسلة منها.
وبين قراري التعبدي منذ أول الشهر تفرغاً ما استطعت للعبادة والنوافل زيادة في الجرعة الإيمانية، وبين عدم إغفال العمل والإنتاج في رمضان؛ وقعت في حيرة: هل أكمل ما بدأته مع دخول الشهر الفضيل أم استجب لتلك الباحثة الأريبة وأُجيب على أسئلتها المرسلة؟!.
هذان الأمران أخذا وقت رحلتي بالقطار إلى أن وصلت إلى نتيجة؛ مفادها: أن تقديم العون للآخرين عبادة، خصوصاً حين ننير طريق طالب علم، لأبدأ عقب وصولي إلى المدينة بالإجابة على أسئلتها، حينها اجتاحني شعور بالسعادة، وتيقنت أن من يخلص في نواياه يجعله الله من أسباب النجاح لنفسه وللآخرين.