أجرى الوزير السابق لحسن حداد، الخبير في الدراسات الاستراتيجية، وصفا لـ”قشتالة وليون”، أكبر جهة في إسبانيا، مشيرا إلى أنها “القلب النابض للإرث الحضاري والثقافي الإسباني”، ومستحضرا في الوقت نفسه ومضات من التاريخ حين تم توحيد مملكة قشتالة تحت قيادة إيزابيلا الأولى ومملكة أراغون بقيادة زوجها فرديناند الثاني في 1479 تحت مظلة واحدة.
هذا نص المقال:
من الصعب مغادرة مدريد، عاصمة الفن والطبخ والمعمار، الذي اختلطت داخله معالم الإرث البوربوني للقرن الثامن عشر مع حداثة القرن التاسع عشر والعشرين.. مدريد لؤلؤة الحداثة على خلفية بقايا العصور “الإمبراطورية” بِغِناها وحضارتها ومآسيها. اتجهنا، خريفَ 2023، جهة الشمال الغربي نحو فالادوليد أو “بلد الوليد”، كما كان يسميها العرب، في قلب بلد “قشتالة وليون”. هناك من ينسب الاسم إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبدالعزيز (668-715 م)، بينما هناك من يرجعه إلى التعبير الكلتيبيري “فاليس طوليتوم”، أي وادي الماء، تعبيرا عن لقاء نهر البسويركا بالإسكويفا، قبل التقائهما بنهر الدويرو.
“قشتالة وليون” هي أكبر جهة في إسبانيا، وهي القلب النابض للإرث الحضاري والثقافي الإسباني. فهي تتكون من أقاليم تابعة لمملكة ليون، ضمنها سلامانكا، المعروفة بجامعتها، التي يرجع تاريخ نشأتها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وكنائسها وساحتها ذات النفحة الباروكية. ومن أقاليم مملكة قشتالة القديمة خصوصا “بلد الوليد” وسيغوفيا حيث يوجد القنال المائي ذو الطوابق المرتفعة، الذي بناه الرومان في القرن الثاني للميلاد، وهو إرث إنساني حسب منظمة “اليونيسكو”.
يَعْتبِر البعض “بلد الوليد” عاصمة لجهة “قشتالة وليون”، ولكن أهل ليون لا يتفقون مع ذلك، خصوصا أنهم يعتبرون أنفسهم مهد “الثقافة البرلمانية” العريقة، حيث اعتبرت “اليونيسكو” وثائق ما يسمى بـ”مراسيم ليون لسنة 1188″ تراثا إنسانيا لا ماديا يؤرخ لنظام برلماني أوروبي يلتقي فيه الملك وممثلو القساوسة والشعب للتداول حول القضايا التي تهمهم.
ومع ذلك تبقى “بلد الوليد” القلب النابض لجهة “قشتالة وليون”، وكانت إلى وقت قريب تمثل ما كانت تمثله فاس بالنسبة للمسلمين، فضاءً يرمز للثقافة والتمدن والعلم والمعرفة. الانتماء إلى “بلد الوليد” يولد إحساسا بالتفرد والريادة الثقافية والسياسية عند أبنائها مثلما هو الحال عند أهل فاس في المغرب.
أخذتنا الرحلة القشتالية من مدريد إلى بلد الوليد ثم إلى غرب ريوخا (الواقعة جنوب بلاد الباسك)، والمعروفة بمنتوجاتها الفلاحية، خصوصا العنب، ومنها إلى سرقسطة (عاصمة أراغون)، مرورا بلوكرونيو، عاصمة ريوخا، وجنوب جهة نَبَرّة، المعروفة بصناعتها وقوتها الاقتصادية. في سرقسطة، عاصمة أراغون، تتساكن الكنيسة الباروكية لـ”سيدة العمود” (أي ظهور العذراء فوق عمود حسب التقليد الكاثوليكي) وقصر الجعفرية، الذي تم تشييده في فترة حكم المُقتدِر، وقد شكل مقر حكم ملوك بني هود (1036-1114) أحد ملوك الطوائف.
مُرورُنا من أراغون أعاد إلى ذهني توحيد مملكة قشتالة تحت قيادة إيزابيلا الأولى ومملكة أراغون بقيادة زوجها فرديناند الثاني في 1479 تحت مظلة واحدة، وهو ما قاد إلى توحيد إسبانيا والقضاء على آخر حضور إسلامي بغرناطة (1492)، وطرد اليهود والمسلمين، والتأسيس لمحاكم التفتيش سيئة الذكر، وقيام عصر اكتشاف ما سمي بـ”العالم الجديد”، وبداية العصر الذهبي للإمبراطورية الإسبانية. التراث شاهد على هذا التساكن الصعب (عبر التاريخ)، الذي تجاوزه الإسبان حاليا بالتأسيس لمجتمع حداثي متعدد ثقافيا وإثنيا، إلى حد ما، حسب البعض.
من بلاد أراغون أخذنا وجهة فالنسيا مرورا بتيرويل، عاصمة فن “الموديخار” المعماري. “الموديخار” هم “المدجنون”، أي المسلمون الذين تم السماح لهم بالبقاء (رغم موجات القمع والتفتيش) بعد “إعادة الغزو المسيحي”. ولكن فن “الموديخار” هو معمار تم تطويره من طرف صناع تقليديين إسبان ما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، بناء على الفن الإسلامي واستلهاما لأساليبه وتيماته. تيرويل شكلت أحيانا “مدينة طرفا” بين الموحدين في فالنسيا ومملكة أراغون وعاصمتها سرقسطة، ولكنها تجاوزت استحالة التعايش السياسي بمعمار مسيحي من أصل إسلامي. ما لم تَقْدِر عليه السياسة جَسّدْته الثقافة بشكل جميل ومبهر أحيانا.
معمار بلنسية شاهد على الإرث الإسلامي في عهد الأمويين ثم الطوائف ومن بعدهم المرابطون ثم الموحدون؛ نظام السقي الذي أسس له ملوك بني عامر كان فريدا. ولكن فالنسيا الحالية بمينائها وصناعتها وتجارتها ونشاطها الفلاحي وسياحتها تشهد تطورا اقتصاديا منقطع النظير.
بلنسية، بستان الأندلس، أصبحت الآن مرتعا لنشاط ثقافي متنوع، خصوصا متحف الفنون الجميلة و”متحف تاريخ فالنسيا”. ما بين ماضٍ مجيد وحاضرٍ غني تبقى فالنسيا إحدى جواهر إسبانيا الحديثة، تتفاعل الطبيعة والطقس والإيكولوجيا عبر العصور لإعطائها رونقا جديدا حسب الزمن والنسق السياسي.
بعد فالنسيا أقفلنا راجعين إلى بلاد قشتالة/ ليون عبر قشتالة/ لامانشا ومدريد وبعدها إقليم زامورة.
قشتالة/ لامانشا مترامية الأطراف كذلك، ولكنها ليست قوية اقتصاديا مثل الأقاليم الشمالية. لم نَقُمْ بزيارة طليطلة، المدينة الجميلة، التي كانت قنطرة مرور كتب الفلسفة والحكمة والمعرفة العربية وتراجم التراث الإغريقي، التي تم نقلها إلى العربية في العهد الأموي والعباسي، خصوصا في فترة الخليفة المأمون (813-833). كما أن حُنَيْن بن إسحاق والحرافي والطبري والكندي برعوا في ترجمة الكتب من الإغريقية والفارسية والسريانية إلى العربية، وبالتالي فإن مدرسة طليطلة للتراجمة، بقيادة كبير القساوسة ريموند الطليطلي (1125-1152)، اشتهرت بترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية، تحت ريادة ملك قشتالة وليون وغاليسيا ألفونسو العاشر الملقب بـ”الحكيم “(1252-1284)، والذي أشرف على الترجمة من العربية إلى الإسبانية القديمة. تراجمة “بيت الحكمة” في عهد المأمون وتراجمة مدرسة طليطلة في عهدي ريموند وألفونسو قدموا خدمة كبيرة للإنسانية والعلم والمعرفة، خصوصا النهضة الأوربية والتطور العلمي والتكنولوجي الذي تلاها.
أخذتنا الرحلة القشتالية أخيرا إلى إقليم زامورة الموجود على “طريق الفضة”، والذي كان يربط منذ العهد الروماني بين قادس وإشبيلية بإقليم الأندلس وسانتياغو دي كومبوستيلا بإقليم غاليسيا، ومنها إلى فيستيرة على المحيط الأطلسي. تَمُرُّ هذه الطريق من زافرة وكاسيريس (غرب مدريد) وسلامانكا وزامورة في قشتالة وليون. لم ندخل زامورة ولم نزر “طريق الفضة” (أو طريق “البلت” كما سماها العرب)، ولكن اقتربنا منها لزيارة بادية هذا الإقليم قبل الرجوع إلى “بلد الوليد”.
رحلة عبر جغرافيا وتاريخ وثقافة إسبانيا الحديثة والقديمة. الإرث العربي الإسلامي حاضر في الأسماء والمعمار والثقافة؛ ولكن قوة “إعادة الغزو” المسيحية التي بدأت منذ خمسة قرون قوية كذلك. ومعالم التوسع الإمبراطوري والغنى والترف الذي صاحب “إعادة الغزو” أثَّر كذلك في العمران ومستوى تقدم إسبانيا ككل. أما موجات العصرنة والتحديث والتصنيع التي صاحبت عصر الديمقراطية واللامركزية، وهي عوامل جعلت إسبانيا تتقدم بشكل ملحوظ على مستوى التنمية البشرية والاقتصادية، فهي بادية للعيان كذلك. نعم هناك تحديات الحفاظ على الوحدة في إطار التنوع اللسني والإثني، ولكن إسبانيا، في نظري، لها من المقومات الثقافية ما يُمكِّنها من الحفاظ على التجربة الحالية حاضرا ومستقبلا.
المصدر: وكالات