أعرب المؤتمر القومي العربي عن ألمه برحيل المجاهد محمد بنسعيد أيت يدر، عضو المؤتمر القومي العربي والشخصية المغربية والعربية البارزة التي طبعت بسيرتها العطرة عصراً كاملاً من تاريخ المغرب والوطن العربي.
وأورد المؤتمر القومي العربي تفاصيل مطولة من مسار محمد بنسعيد أيت يدر في الحياة والسياسة جاءت كالتالي:
ولد الراحل الكبير يوم فاتح يوليوز 1925 في قرية تين منصور نواحي مدينة أكادير وسط المغرب، وتلقى تعليمه في المدارس العتيقة بمنطقة سوس، حيث التقى حينها بالعلامة البارز محمد المختار السوسي؛ وبعدها انتقل إلى مراكش لمتابعة دراسته في مدرسة ابن يوسف التليدة، حيث انفتحت عينه على العمل الوطني والقومي بتأثير من القضية الفلسطينية كما كان يؤكد دائما مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، فكان لقاؤه بقادة كبار مثل الزعيم عبد الله إبراهيم والشهيد المهدي بنبركة، والمجاهد محمد الفقيه البصري والزعيم علال الفاسي والأديب محمد الحبيب الفرقاني، حافزا للسير في طريق النضال.
في تلك الأجواء التحق الراحل بخلايا حزب الاستقلال، ومن خلالها انخرط في خلايا المقاومة وجيش التحرير، ليرسم له مسارا نضاليا متميزا في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي وعملائه، حيث أبلى البلاء الحسن بصرامة ثورية لا تضاهى ونزاهة أخلاقية نادرة.
وبعد الاستقلال التحق أيت إيدر بالمشروع التحرري الذي قاده الشهيد المهدي بنبركة والتيار التقدمي في حزب الاستقلال، حيث كان في طليعة مؤسسي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي خاض معارك شرسة مع بقايا الاستعمار ومع النظام الاستبدادي الذي بدأت علامات بروزه واضحة حينها، خاصة بعد الانقلاب الذي عرفه المغرب على الحركة الوطنية من طرف القوة الثالثة التي ثبتت دعائمها قوات الاحتلال الفرنسي قبل رحيلها.
بالموازاة مع ذلك حافظ الفقيد على نشاطه الثوري في صفوف جيش التحرير بالجنوب المغربي، حيث كان في طليعة من وجّهوا ضربات مؤلمة لجيش الاحتلال الإسباني في الصحراء الجنوبية للمغرب، حيث كان من الرافضين لتجزئة عملية تحرير المغرب من قوات الاستعمار الفرنسي والإسباني؛ ولولا تواطؤ بعض الجهات المعلومة لكان لرؤيته في تحرير الصحراء حينها انعكاس إيجابي على الوضع في المغرب العربي عموماً، إذ كان الأمر متعلقا باستكمال التحرير الشامل للتراب المغربي وفي الوقت نفسه اعتبار العمليات العسكرية جزءاً من عملية دعم الثورة الجزائرية التي كان يخوضها الشعب الجزائري لتحرير أرضه من الاستعمار الفرنسي.
التزامه النضالي وصرامته الثورية جعلت الراحل الكبير يتعرض للاعتقال من طرف النظام السلطوي في المغرب مرتين في سنتي 1960 و1963، بعدما واصل رفضه نهج النظام المغربي حينها، إذ كان من أبرز الرافضين لتصفية جيش التحرير بالجنوب المغربي، مع فضحه جرائم القمع الدموي التي استهدفت أبناء شمال المغرب لقطع رابطة تعلقهم بالمشروع التحرري الذي قاده الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي؛ وقد صدر في حقه أكثر من حكم في أكثر من قضية بسبب التزامه المبدئي، من ضمنها الحكم عليه بالإعدام، ما جعله يختار طريق المنفى القسري في الجزائر ابتداء سنة 1964 وبعدها في فرنسا، حيث تابع معاركه انطلاقا من منفاه، متفاعلا مع انتفاضة 23 مارس سنة 1965 واغتيال الزعيم القومي والأممي الشهيد المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر من السنة نفسها. وكان من تداعيات ذلك إطلاق حركة قومية يسارية عرفت باسم حركة 23 مارس أواخر الستينيات من القرن الماضي، حيث نشط الراحل إعلاميا في منابر عربية صادرة من باريس ومن عواصم النضال في المشرق العربي، سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد ودمشق، ليصدر في السبعينيات منبرا إعلاميا من فرنسا يحمل اسم الحركة التي أسسها “23 مارس”.
وبعد حصول انفراج سياسي جزئي في المغرب مطلع الثمانينيات قرر أيت إيدر العودة إلى المغرب سنة 1981، ليطلق حزبا سياسيا يحمل اسم “منظمة العمل الديمقراطي الشعبي”، مثل تجربة سياسية متميزة وملهمة في المشهد السياسي والثقافي مغربيا وعربيا، تميز بمنبر إعلامي يحمل اسم إحدى معارك الجهاد التي قادها الزعيم الخطابي “أنوال”، ليشكل قيمة مضافة في المشهد الإعلامي المغربي والعربي، خلف أثرا كبيرا مازال صداه الطيب واضحا على أجيال من الشباب والمثقفين والنساء والطلبة قائما حتى الآن.
انتخب الراحل برلمانيا سنة 1984 باسم حزبه الجديد، حيث كان صوت من لا صوت له في البرلمان، تتسم مداخلاته بالجرأة والشجاعة ومناقشة القضايا الحارقة التي كان يتهرب منها الجميع، فكان صلبا في مواجهة تسلط النظام حينها، وساهم في فضح وجود المعتقل السري الرهيب تزممارت. وقد ارتعدت فرائص رموز الاستبداد في المغرب حينها لحظة طرح المجاهد بنسعيد سؤالا تاريخيا في البرلمان حول هذا السجن المرعب، وغيره من الأسئلة التي كانت عنوانا لمعارك كبيرة في مواجهة الفساد والاستبداد والتبعية والاستعمار، حول تزوير الانتخابات، وحول تفريخ الأحزاب السلطوية، وحول الاعتقال السياسي والقمع، وحول الفساد والنهب، وحول الهيمنة الاستعمارية للغة فرنسا رغم خروج جيشها، وحول التطبيع مع كيان الاحتلال الصهيوني…
سنة 1992 كان الفقيد من أبرز مؤسسي الكتلة الديمقراطية كإطار يمكن من خلاله بلورة كتلة تاريخية تجمع كل أصحاب المصلحة في التغيير داخل أقطاب الحركة الوطنية (مع عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إبراهيم، محمد بوستة وعلي يعتة). وهي المرحلة التي عرفت تحديات وطنية وعربية كبيرة كانت سمتها الأساسية أحداث الانتفاضة في فلسطين والعدوان على العراق وفرض الحصار عليه قبل احتلاله وتشتيته بعد ذلك بعقد من الزمان.
لذا كان الراحل في طليعة مؤسسي مجموعة العمل الوطنية من أجل العراق وفلسطين إطارا للعمل النضالي من أجل الدفاع عن العراق وفلسطين، إلى جانب أسماء بارزة في المشهد الوطني المغربي، مثل المجاهد محمد الفقيه البصري والأديب محمد الحبيب الفرقاني وعالم المستقبليات المهدي المنجرة، والنقيب عبد الرحمان بنعمرو، والمناضلة زهور العلوي والحقوقي خالد السفياني…
على الصعيد الداخلي المغربي واصل أست إيدر حركته في توحيد اليسار، ليؤسس اليسار الاشتراكي الموحد سنة 2002، ثم الحزب الاشتراكي الموحد 2007، وتابع تلك الصيرورة من خلال دعم تأسيس فيدرالية اليسار الديمقراطي.
وارتبط الراحل الكبير بفلسطين منذ نعومة أظافره في إطار ما خلفته أجواء ثورة 1936 من تداعيات حتى تسليم الاستعمار البريطاني فلسطين للعصابات الصهيونية سنة 1948، إذ واكب مآسيها المتواصلة، وكذا ما صنعه الشعب الفلسطيني من ملاحم بطولية بدءاً من رصاصة فتح الأولى منتصف الستينيات وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، إذ ارتبط برموزها الشهداء ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد، والقائد الراحل جورج حبش والمناضل نايف حواتمة، وغيرهم، بعلاقات متميزة، نال من خلالها احترامهم جميعا؛ مثلما كانت علاقاته مع قوى المقاومة العراقية واللبنانية مليئة بالتقدير والاحترام، سواء تعلق الأمر بقادة المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، مثل الراحل الدكتور حارث الضاري، أو قادة فصائل جبهة المقاومة الوطنية (جمول) القومية واليسارية أو رموز حزب الله في لبنان، فكان رجل الجميع الذي نال إجماعا قل نظيره في المشهد السياسي والفكري العربي.
أسس المجاهد بنسعيد أيت يدر العديد من المؤسسات والهيئات في المجالات المختلفة؛ فكان من مؤسسي المرصد المغربي لمناهضة التطبيع، إضافة إلى مناضلين كبار مثل الأديب الراحل إدمون عمران المالح والنقيب عبد الرحمان بنعمرو والنقيب عبد الرحيم الجامعي… إطارا يجمع النشطاء في مواجهة الاختراق الصهيوني ويقوم بفضحه وإظهار مخاطره على الوطن والشعب والأمة، مثلما كان من مؤسسي مؤسسة الجابري للفكر والثقافة إطارا ثقافيا يحتضن مشروع المفكر المغربي والعربي الراحل الذي ملأ دنيا الناس تنويرا ونقدا.
وشارك الأستاذ أيت يدر في عدد من دورات المؤتمر القومي العربي، مثلما شارك في أنشطة المؤتمر العربي العام، ومنتدى العدالة من أجل فلسطين، فكان صاحب حضور بهي زادته السنون حنكة وصفاء وحكمة وسعة رأي؛ وكان في أيامه الأخيرة مستبشرا بإنجازات الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، التي زادتها بركات طوفان الأقصى ألقاً وتقدما على درب تحرير فلسطين شعبا وأرضا ومقدسات؛ وكان دائم الانشغال بفلسطين سائلا عن أوضاع شعبها وإنجازات مقاومتها حتى في الأسابيع الأخيرة من حياته مثلما كان دائما في حله وترحاله.
وكان الفقيد من المنتصرين لفكرة توحيد المغرب العربي الكبير، وارتبط بعلاقات عميقة مع رموز الثورة الجزائرية، مثل أحمد بنبلة والحسين أيت أحمد وعبد الحميد مهري ولخضر بورقعة؛ مثلما كانت له علاقات واسعة مع النخب المغاربية الأخرى في تونس وموريتانيا وليبيا.
ولتأطير اهتماماته الفكرية والنظرية أسس الراحل الكبير مؤسسة بنسعيد أيت يدر للدراسات وللأبحاث، إطارا للتفكير النظري والدراسات الإستراتيجية في القضايا التي قد لا يعطيها العمل الحزبي والسياسي المباشر أهميتها اللازمة، ونشر من خلالها مجموعة من الكتب والدراسات التي توثق لمرحلة حارقة من التاريخ المغربي المعاصر.
وكان المجاهد في كتاباته وحواراته ومداخلاته منتصرا للغة العربية لغة وطنية موحدة لجميع المغاربة في مواجهة هجمة الفرانكفونية، مثلما كان مؤمنا بشدة بكونها تمثل إطار حضاريا لتحقيق الاستقلال الثقافي والحضاري والتقدم العلمي للمغرب وللوطن العربي بعيدا عن أي انغلاق أو تعصب.
وكان الراحل الكبير صاحب قلب يسع الجميع، كثير السؤال للاطمئنان على أسر المقاومين والمعتقلين السياسيين وأبناء الشهداء والقادة على الصعيد المغربي والعربي (مثل عائلة الزعيم الخطابي وعائلة الشهيد بنبركة، الراحل محسن إبراهيم، الأسير مروان البرغوثي…)، فكان مثالا للمناضل والقائد الإنساني الذي لا تصرفه الاهتمامات النضالية عن الاهتمامات الإنسانية؛ اجتمعت فيه الكثير من الخصائص التي تفرقت في غيره، صرامة ثورية وأخلاق عالية وإنسانية شفافة والتزام نضالي قلٌ مثيله، لذلك فإن خسارتنا في رحيله كبيرة ولا تعوض.
وألف أيت يدر الكتب التالية:
1. وثائق جيش التحرير في جنوب المغرب من 1956 – 1959 (2011).
2. صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي (2011).
3. الهيئة الريفية ملف وثائقي (2018).
4. هكذا تكلم بنسعيد، تحرير عبد الرحمان زكري (2019).
5. معركة إيكوفيون (المكنسة) 2021
6. un destin marocain, le chemin d’un résistant. (2024).
المصدر: وكالات