بعد أن حصلت على الإجازة من جامعة العاصمة وتسكعت طويلا بين المدارس الخصوصية تقدمت لمباراة المعلمين ونجحت، ظننت أني قد استويت ولما يلزم قد وفّرت، اتفقت مع حبيبتي شهرزاد أن أتوكل على الواحد الأحد الفرد الصمد وأكمل ديني أخطبها من والدها المحترم…
لبست بذلتي اليتيمة وسويت ربطة عنقي، مسحت حذائي وعطرت نفسي، تأملت وجهي طويلا في المرآة، اطمأننت، استخرت ربي وقصدت باب أهل المصونة. مشيت في شارع بين فيلات الطبقة المنتجة، سمعت نباح كلاب تكشف قوة نباحها حجمها وغضبها ضدي.
وصلت وطرقت، فتح البواب، سألني فأجبته بشجاعة:
– لدي موعد عمل.
دخلت، حدد لي البواب مكانا للجلوس، استنشقت الياسمين المندلع في الحديقة، طلبت مقابلة السيد، انتظرت قليلا، جاءت الخادمة وأدخلتني، وقفت مطمئنا أتأمل الأثاث الفخم والمرايا المفضّضة في بهو الفيلا الذي يشبه ساحة مدرسة خصوصية في حي راق… استضفت نفسي وجلست على كرسي جميل.
بعد لحظات جاء والد المصونة بملابسه الكاملة ووجهه اللامع وعطر الكولونيا الذي يسبقه، قال:
– هل هناك مشكلة؟
– السلام عليكم.
– لم يسبق أن تقابلنا؟
– صحيح، الأمر كذلك يا سيدي.
– هل تطلب مساعدة؟ (ملاحظة مقحمة: يبدو أن شهرزاد لم تخبره بقصتنا).
– خطأ. أريد أن أقول…
– ادخل في الموضوع مباشرة.
– نحن عشاق الشعر مهووسون بالمقدمات الغزلية الطللية.
ندت عن الرجل ضحكة غير ودّية، بلعت ريقي وحرت ماذا أقول.
تنحنح الرجل مرات يستحثني، عقدت العزم على الكلام، جف حلقي كما حصل يوم أنجزت الدرس الأول أو يوم زارني المفتش التربوي، اجتهدت بحثا عن الكلمات، لاحظت أن مضيفي لم يطلب لي ولو كأس ماء، لم أستطع أن أطلبه مخافة أن يفسر ذلك بالطمع في صهري المقبل، قلت له دفعة واحدة:
– أطلب يد المصونة شهرزاد.
شعرت أني كصخر حطه السيل من عل، انتظرت نتيجة اصطدامي بالأرض قال الرجل للخادمة “هات عصير تفاح”.
استبشرت، أحرجني أنه لم يستشرني، لماذا يفرض عَلَي عصير تفاح؟ أنا أفضل الشاي، لكن لا بأس، استويت في جلستي وأحسست بأهميتي، ألست مربي الأجيال؟
قال الرجل:
– أتمنى أن تعرف حقوق الزواج وواجِباته.
– طبعا، وسأسعِد ابنتك يا سيدي.
بدا أن الرجل لم يفهم ما معنى أن أسعد ابنته، فكرت أن أشرح له، لكن لا يهم، عندما سيوافق سأفعل ما أريد… جاءت الخادمة بالعصير، وضعته أمام الرجل الذي شربه دفعة واحدة.
ارتبكت وتعرقت، إن هذا الشخص يحط من كرامتي، وشعاري أنا هو “الموت ولا المذلة”.
تأملني الرجل بعين قاسية، وبعد صمت طويل قال:
– سأوافق على طلبك إذا وفرت لابنتي سبعة في سبعة.
– لم أفهم اشرح لي قليلا.
– الشرح ليس مهنتي. اذهب وفكر، لديك مهلة سبعة أيام، سأنتظرك في مكتبي.
وقفت مصدوما، بينما بقي الرجل جالسا في مكانه وخرجت كتلميذ مطرود ضبط في حالة غش، في الشارع فكرت في كلام صهري المنتظر، ألم يكن سلوكه مهينا؟
ربما… وربما كان ما فعله جزءا من طبعه العادي، لكن شهرزاد أحب إلي، سأتحمل من أجلها متاعب العالم أجمع، لكن ماذا لو رفض والدها؟ تقول عنه صارم وعملي، ما معنى عملي؟ أن يشرب عصير التفاح وحده وكأني غير موجود؟
لا، عملي معناه يفكر جيدا، أنا أيضا أفكر جيدا. والدليل أني كنت متفوقا في الجامعة، لكني فقير، والفقر ليس عيبا.
بعد يومين ذهبت إلى مكتب الرجل، استقبلني بحماس أدهشني:
– مرحبا، مرحبا… وجدتها بسرعة؟
– أكيد سيدي…
– أنت عملي، إذن، هات ما وجدت.
قلت بثقة:
– سأضحي وسأذبح سبعة خراف في العرس وسأقبل العروسة سبع قبل ليلة الزفاف وسأجعل من شهر عسلنا سبع سنين وسنسكن الطابق السابع في إحدى عمارات محاربة السكن غير اللائق وسأحب ابنتك يا سيدي سبعا وسبعين عاما وستنجب لي سبعة أطفال في جمالها، أما المسألة السابعة فهي بيني وبين شهرزاد.
قهقه الرجل بقوة أخجلتني من نفسي وهو يقول بفرح كأنه ربح رهانا ذهبيا:
– كنت أتوقع أن تقول لي قرد – بقرة – خبز – طباشير…
تابع ضحكه قبل أن يستطرد:
– أنت يا ولدي لم تفهم شيئا. (قال ذلك بخيبة وانفعال حقيقيين).
– إني أحب شهرزاد ولا تقلق من أجلها يا سيدي.
– لماذا لا تنظر حولك قليلا؟ لك سبعة أيام أخرى، مع السلامة.
خرجت والارتباك يتملكني بدت لي شهرزاد بعيدة بعيدة، يبدو أن علي المغامرة لأستكشف الجزيرة المتحركة ووادي الألماس الذي أغنى سندباد.
قضيت النهار أتسكع، وفي مساء اليوم نفسه، التقيت شهرزاد، وحكيت لها ما حدث، ضحكت، لنقل سخرت مني، قالت إن المسألة بسيطة، قلت أنا أريد الزواج ووالدك يطرح علي لغزا.
– ليس الطلب لغزا، افتح عينيك قليلا.
قبلت النصيحة وبَحلقت.
هل أنا بصير في اللا مرئي فاقد البصر في الواقع المرئي؟
يتهيأ لي أن هناك خطأ… قطعت شهرزاد تفكيري:
– بابي واقعي.
– هذا يعني أنك متفقة معه.
– بابي يقول انتهت مرحلة (تعالي نحلق رؤوسنا بالمجان).
– أكيد هناك خطأ.
– هذا ليس خطأ نحويا.
أحسست بنفس النبرة الساخرة التي تطبع كلمات الأب، ما دخل اللغة في مشكلتي؟ قلت بحزن:
– وليس خطأ إملائيا.
ساد الصمت بعض الوقت ثم قالت:
– لقد جاء موظف محكمة جنائية لخطبتي وطلب منه بابي الشيء نفسه.
أقلقني أن تكون خطيبتي على صلة بشخص آخر، تساءلت:
– وما هو هذا الشيء بالضبط؟
– أريد أن تحل المسألة بنفسك.
– لم أفهم.
– المطلوب أن تقدِر لا أن تفهم.
– لا أريد أن تضيعي مني.
– تحبني؟
– جدا جدا.
– إذن اتفق مع بابي وأنا معك.
تهت في الشوارع أبحث عن حل للغز، ليس المهم من هو الكائن الذي يمشي على أربعة ثم اثنين ثم ثلاثة، المهم هو الألغاز السبعة…
ذهبت عند عجوز كانت صديقة لأمي أيام كان الورد ينبت في ساحة المدرسة، وجدتها مشغولة، تحضر مواعينها لتطبخ في أحد الأعراس الضخمة، وهي مهنة مارستها في السنوات الأخيرة، تذكرتني العجوز البدينة بصعوبة، ترحمت على أمي الطيبة، شرحت لها مشكلتي، صمتت المرأة الخبيرة بعض الوقت ثم سألتني:
– هل لك مهنة مريحة
– طباشير وممسحة.
– حتى أبوك لم يكن لا مهرّبا ولا مِليونيرا.
– تعرفين ذلك.
– كان الله في عونك يا ولدي.
مشيت إلى حال سبيلي، القلب راغب واليد عاجزة، أفكر في حل، لا أملك إلا أجرتي التي علّقت عليها آمالا وبقيت معلقة، حتى لو وفرت مائة عام، على فرض أن تبقى الأسعار ثابتة فلن أمتلك العجائب المطلوبة للحصول على المصونة، هل أسرق؟
لا أريد، بل لا أستطيع، لكن من حقي أن أتزوج وأعيش حياة مستقرة، ولا أرى أي ضرورة لسيارة رباعية الدفع، أشتري حذاء واحدا في السنة وأخاف أن يتمزق، أتجنب الحفر والبرك المائية، ويقول لي الرجل السمين هات العجائب السبع.
لم يبق إلا أن يقول لي هات ألف ناقة حمراء من أجل عَبلة الجديدة أو أن يقول لي اركب سبعة نسور واقطع سبعة بحور وهات سبع زمردات خضر…
مضى زمن وأنا تائه، انقطعت الاتصالات وصارت الهواتف صماء.
حاولت الاتصال بشهرزاد في البيت، تجيبني الخادمة على الهاتف الثابت:
– من؟
– أريد شهرزاد.
– مسافرة… في الحمام… نائمة…
– أيقظيها.
– لا يمكن.
اللعنة على الخدم وعلي.
يسحقك أقرب الناس إليك…
تذكرت يوم التقيت شهرزاد، سحرتها ببلاغتي المجانية المضمخة بالأحلام، قلت لها سأتزوجك، فزغردت بضحكتها… وتوالت الأيام وانجلت أوهام سنوات التعلّم… بدأت العمل وتلاشت الأحلام، لكن حبي بقي قويا، وأكدت لها وعدي، وفرقتنا العجائب التي لا عدد لها.
لكن يجب أن أكلمها لتقنع والدها ليسحب شروطه إذا كانت تريدني زوجا حقا، جئت إلى الفيلا بنفسي، الوقت مساء، عجيب، كان الباب مفتوحا، شممت رائحة شواء، سمعت ضجيجا وموسيقى، اقتربت أكثر، شممت عبير مأكولات شهية وكأن طن لحم يطبخ في الداخل، جرتني الرائحة من أنفي، أوقفني البواب وقد نسيني:
– لديك دعوة للحفل؟
– ومن تزوج؟
– لالة شهرزاد.
– يا إلهي (زاد نبض قلبي) وهل وفر لها شهريارُ المعاصرُ العجائبَ السبع؟
-“وفرها بارون الحشيش”.
هكذا همس لي البواب، قلت:
– اللهم بارك.
تمتم البواب بخشوع يسيل الدموع رافعا أكف الضراعة إلى السماء “آمين… آمين يا رب”.
ثم دعاني لتناول العشاء، فالطعام كثير.
اعتذرت لأن قلبي لا يسمح بتناول وليمة دسمة مجهولة المصدر والمرجع.
المصدر: وكالات