احتراماً لتجربة الرائد الإعلامي علي بن محمد الرابغي التي قاربت سبعة عقود، بدأت بعشق مبكرٍ للاطلاع والقراءة، ثم الكتابة الصحفية والنشر، تلتها تجربة إذاعية ثريّة، ثم تلفزيونية، واستمرت مع العمود الصحفي، إلى ما قبل عامين أو ثلاثة.. «أبو مروان» ذاكرة حيّة نابضة بالحُبّ والخير والجمال، وسيرته العطرة نالت ثقة رجالات دولة، ومثقفين ورموز إبداع.. ولعلنا هنا نضع القراء أمام وثيقة تاريخية، مصدرها شاهد عيان، رأى وسمع وعاش وروى لنا ما نقدمه لكم في هذه المساحة..
• كرماً تضعنا في فضاء وزمن وظروف الولادة.
•• ولدتُ في حارة أمير رابغ عام 1939، وكان فضاءً بين القرية والمدينة، وأُمي ولود، إلا أن الأقدار كانت تختطف منها صغارها، وبدأت المدرسة في رابغ، وبسبب حفرة كبيرة خافوا علينا منها، نقلونا لمدرسة وسط السوق، ثم انتقل عمل الوالد في الثكنة العسكرية بجدة (القشلة)، وكان من رأي أبي أن أعيد السنة التي درستها في رابغ في مدرسة الوزيرية في الكندرة أنا وأخي كامل، ثم انتقلنا للمدرسة المنصورية في العلوي، ومديرها حسن أبو الحمايل من أكرم الشخصيات.
• ما أبرز ملامح المرحلة؟
•• كان أبي يعطيني ثلاثة قروش وأخي كامل قرشين نضمها لبعضها، ونمشي إلى المدرسة، وفي الظهر تبدأ الفسحة الكبيرة، وكان بجوار العطّار الشلبي محل بيع تقاطيع وشوربة، فنتغدى بالخمسة قروش، تكفينا أنا وأخي وتوفّر لنا وجبة الغداء.
ثم نعود من العلوي إلى الكندرة مشياً، واستمررت حتى السادسة ثم انتقلنا للمدرسة السعودية، ومديرها الشيخ نعمة الله، ومكثتُ فيها ثلاثة أشهر.
• هل أدركت الملك عبدالعزيز؟
•• نعم، وكان الملك عبدالعزيز يقضي نصف العام في الحجاز، ونصفه في نجد. وكانت الحياة بسيطة، والإمكانات متواضعة، فسوق الندى، وشارع قابل كانت تضيئهما فوانيس، وانتقلنا للطائف وكانت حياة مختلفة، فيها كهرباء، وما كان في المنطقة الغربية كهرباء، بدأ الجفالي تجربة الكهرباء في الطائف.
• من أين بدأت الدراسة في الطائف؟
•• دخلت المدرسة السعودية في الطائف ومديرها محمد سعيد كمال (رحمه الله)، وكان فيها مدرس عبقري اسمه حسين كمال وكان يكلفنا بمواضيع إنشائية منها غروب الشمس، وكتبتُ موضوعاً لفت الأنظار، وكتبه الأستاذ على السبورة، وفي الصيف سكنت في بيت الأستاذ عبدالله الجفري، وكان معنا محمد صالح باخطمة، ونوري كشميري، ومحمود سفر، وأمين وحسن موسى، فطلبوا مني المشاركة في مجلة (مهبط الوحي) التي كان يحررها الجفري، وكان الموضوع محط أنظار واهتمام، حتى ظنوه مسروقاً، ثم وردت تعليقات، ثم بعثوا بموضوعي لناقد في مصر، وكتب عليه تعليقاً عجيباً، وعدها مقالة ظاهرة، ومثلّت نقطة تحوّل في حياتي.
• أي المكتبات توفر لك احتياجك من الكتب؟
•• كنت أتابع مكتبة الثقافة لصاحبها عبدالرزاق كمال، ومكتبة الثقافة في مكة لصالح وأحمد محمد جمال؛ خصوصاً أنهم يقدمون عرضاً كل صيف على الكتب، يقررون يوماً للثقافة، فيبيعون أي كتاب بريال واحد، فنوفّر ما نشتري به كتب يوسف السباعي، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأنيس منصور، وغيرهم من الكتاب.
توجهي للكتابة، فطري، وبفضل الزملاء بدأت والكتاب وسيلة التحوّل.
• ما أول مقالة نشرت لك في الصحافة؟
•• نشرت (الندوة) لي موضوعاً عن مستشفى الأمراض النفسية، ففوجئت في اليوم التالي أن مقالي وصل إلى المدرسة، فطلب الأستاذ حامد مير من مدرّس اللغة العربية أن يقدمني لأقرأ موضوعي في الإذاعة المدرسية، وكانوا يفاخرون بي في المرحلة الثانوية، ومن الزملاء المتفوقين الدكتور بكر بن عبدالله بكر، طلب مني كراريس الكفاءة فأعطيته، وتفوّق على أقرانه وابتُعث للخارج، وأصبح مديراً لجامعة الملك فهد للبترول، وكان حسّ الدكتور بكر نقدياً، ولكنه لم يستمر.
• ماذا بعد حصولك على الثانوية؟
•• مررت بدور عجيب، كان والدي يعمل مع الفريق الطيب التونسي (رحمهم الله جميعاً)، فأخذ منه توصية للأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع، ليلحقني ببعثة دراسية في الخارج، فدخلتُ عليه في مكتبه، أخذ الخطاب وشرح عليه وأعطانيه، فمشيت خطوتين، وفتحته لأرى ماذا كتب، وكان عصبياً فقال ما فيك صبر حتى تخرج وتقرأ الشرح؟ ففهمت أنه لم يستجب لشفاعة التونسي وكتب حسب النظام، فالجواب من عنوانه.
• أين أتممت الدراسة الجامعية؟
•• انتقلنا للرياض، جامعة الملك سعود، ودارت الأيام وكان عبدالوهاب عبدالواسع يدور على المدارس ولقي معاملة غير جيدة من بعض منسوبي «المعارف»، وطلبوا مني رفع معنوياته، فأجريتُ معه حواراً في جريدة (البلاد)، نشر على صفحتين، ثم لقاء في الإذاعة، وفي التلفزيون، وكان في قمة اللياقة والوداعة، ونجحت المهمة وكانت نقطة التحوّل في العلاقة بيني وبين عبدالوهاب عبدالواسع، ثم أصبحنا زميلين في مجلس إدارة صحيفة «عكاظ».
• متى وأين كانت البدايات الصحفية؟
•• بدأت في (البلاد)، زمن حسن قزاز، ومع الزملاء، سعيد منصور، ومحمد الطعيمي، وعبدالرزاق بكر، والمدير صدّيق العوضي، وكان جميل منصور مسؤول صفحة الرياضة في «عكاظ»، فقال لي أخوه سعيد: فرصتك.. جميل ترك صفحة «عكاظ» الرياضية، ويمكن أن تعمل مع العطار، وكنت أسكن في الرويس، و«عكاظ» في كيلو سبعة، وزميلي إبراهيم العقيلي نائب مدير التعليم، فذهبت للعطار وعرضت عليه، فقال لست بحاجة محرر رياضة، لكن خذ هذه البيانات الصحفية، وحررها لنشارك بها في ذكرى تولي الملك سعود، فعدت إليه بست صفحات، فلما رآها قال: من بكرة أنت مسؤول عن رياضة «عكاظ»، وزميلي العقيلي مصحح.
• لماذا تركت العمل مع أحمد عبدالغفور عطار؟
• مرّت علينا ثلاثة أشهر ولم يصرف لنا العطار ريالاً واحداً، وكان يطلب مني فحماً و«حوت ناشف» من رابغ، ولم أتردد في أن أكتب له خطاباً، عبرتُ فيه عن أسفي بأنك تتعامل مع المحررين باستغلال مجاني واضح، فتضايق مني واشتكى لعدد من الأصدقاء المشتركين، وردّ عليّ بخطاب يؤكد أنه مدرسة لي ولأمثالي، فذهبت لحسن عبدالحي قزاز، وعرضت عليه خطاب العطار، فقال: أنا ما أحتاج (محرر رياضي)، ولكن أحتاجك تتنقل بدراجتك الهوائية في الشوارع وترصد أي حادث أو مشكلة أو مضاربة، توثق وتنقل لنا، وأخذتني العزة بالإثم، رغم أنه وعدني بمكافأة 800 ريال.
• ماذا عن تجربتك الإذاعية؟
• كنت أراسل الإذاعة من رابغ، فعُينت مساعد مذيع، وكانت عندي ستة برامج بين الإذاعة والتلفزيون، فقال أحد الزملاء: الوزير جميل الحجيلان ليس راضياً عن كثرة برامجك، فكلفوا الأستاذ أحمد قنديل ببرنامجي (فنوننا الشعبية) فاعتذر، وقال: نتاجك مميّز ولن أستطيع أن آتي بمثله، فنشر الجفري كلام قنديل.
• هل قابلت الحجيلان حينها؟
•• دعوت مدير مكتبه عثمان القرعاوي للغداء، وكان رئيس نادي الهلال بالنيابة، فقال: أتغدى عندك بشرط تمرني من المكتب، وننتقل لبيتك، وكنت أتحاشى مقابلة الوزير كونه ليس راضياً عن كثرة برامجي كما روى البعض، وجئت لمكتب الوزير واستأذن القرعاوي لتوديعه، وإذا بالوزير يعود ولما رآني، امتدح عملي، ولما بلغته بكلام الحساد، قال: لا صحة لكل ذلك، برامجك نوعية وجيدة، ولها قبول، ونحتاج منك أن تكتب تعليقاً سياسياً يومياً للإذاعة، وطلب من القرعاوي أن يذكّره إذا وصل الرياض أن يصدر قراراً بتعيين علي الرابغي مديراً للأخبار في إذاعة الدمام، وفي أوائل رمضان صدر قرار نقلي للدمام.
• هل نفذت القرار؟
•• لجأت إلى الأمير عبدالله الفيصل، فكتب لوزير التعليم الشيخ حسن آل الشيخ، والشبكشي كتب لوكيل وزارة الإعلام محمد الشيباني، فقال: صعب نلغي قرار الوزير لكن ننقلك لوزارة المعارف، ثم تم تعييني في «تعليم جدة» مديراً لمكتب «رعاية الشباب».
• ماذا عن تأثرك بالأفكار والتيارات؟
•• لم أكن بعيداً عن الأفكار، وكنت متفاعلاً، وعزيز ضياء اختارني سكرتيراً للنادي الأدبي، ولأنّ بعض أفكاره فيها تطرف، اعتذرتُ منه بشدة، فأنا بطبعي لا أقبل التطرف.
• ماذا تذكر من نهائيات البطولات في العاصمة؟
•• أذكر عندما تم افتتاح إذاعة الرياض، وصادف مباراة نهائية، فانتقلنا للرياض، وكان يستقبلنا تركي السديري، وخالد المالك، وسليمان العصيمي، ونحن حضرنا بدعوة من يوسف الطويل، أوامر إركاب وسكن فندقي وسيارة، وأجرينا مقابلة في إذاعة الرياض، وقابلنا الوزير الحجيلان فقال: برامجك تملأ الإذاعة والتلفزيون، فقلتُ له: أنا تركت الإذاعة والتلفزيون من ستة أشهر، فقال: عملنا الإعلامي يكشف معدن الكفاءة، فقلت، مؤكد والدليل أنك ما تدري عني أني نقلت! فقال: التعاون معك مفتوح كما تشاء.
• متى قررت كتابة المقالة؟
•• المقالة بدأتها مع عبدالرزاق بليلة في (البلاد)، وهو مدرسة تبني الكفاءات ولم يكن يبالي، وفتح لنا باب المشاركة، وكان لـ(البلاد) أيام حسن قزاز وهج، فلما تركها القزاز خفت الوهج، وكانت (المدينة) تشتعل بملحقها الأسبوعي، فتعاونت معهم، ومع ذلك لم أغادر موقعي في «رعاية الشباب» في جدة، وعملت محرراً في صفحة الفن بجريدة (المدينة) أنا وبدر كريّم.
• متى عدت لـ«عكاظ»؟
•• طلبني عبدالمجيد شبكشي لأكون مشرفاً على القسم الرياضي في «عكاظ»، ثم تولى الرئاسة رضا لاري، وكان له أسلوبه في الرئاسة، ويوم الجمعة نحضر في الملعب ثم نعود للجريدة، فقال الزملاء: الأستاذ رضا يبغاك، فرحت له، فقال لي: فيه صورة على (الأخيرة) تحتاج تعليقاً، وطلب مني كتابة تعليق على الصورة، فكتبت «إنهم يصرّون على تشويه وجه العروس فمن يحميه؟» فنُشر التعليق، وأحدث ضجة، وتضايق رضا لاري، لأنه نُشر دون اطلاعه.
• ومن بعد، أين حططت الرحال؟
•• بدأ عبدالله الجفري في (الشرق الأوسط)، فانتقلت للعمل في (الشرق الأوسط)، وكان الناشران هشام ومحمد علي حافظ، يلبيان جميع المطالب، ولا يضطرانك لاحتياج أي شيء، وعملي معهما نقطة تحوّل في حياتي الصحفية.
• ماذا عن ذكرياتك مع الأمير عبدالله الفيصل؟
•• الأمير عبدالله الفيصل يبحث ويتواصل، وكنت في الإذاعة، وكانت في الكندرة، ومقر النادي الأهلي قريب، وفجأة في نهائي موسم ألعاب مختلفة، رآني فطلبني وقال: محتاج تنازل عن أخيك اللاعب (كامل) من نادي ثقيف، فتطلع بكرة الطائف، وتفاوضهم إلى 15 ألف ريال، فقلت: بكرة عندي فترة صباحية في الإذاعة، فقال: عبدالله الفيصل يطلبك وتقول إذاعة؟ فتحركت من وقتي وما جاء الظهر اليوم التالي إلا وأنا حاضر عنده بالتنازل، فسلمته التنازل، فقال: أخذوا الـ15 ألفاً، وكان خلفه الأصفهاني يهزّ رأسه يعني قل نعم، فقلت: لا ما أخذوا ولا ريال، هم أصحابي، وأنت تستحق منا كل تقدير، فتوطدت علاقتنا.
• ماذا عن دعوة باريس؟
•• قرر جاك شيراك الاحتفاء بالأمير عبدالله الفيصل في مناسبة كبرى بباريس، وكلفني الأمير أن أكون وزير إعلامه، وقال أعطِ كل رئيس تحرير 10 آلاف دولار، فقبلوا جميعاً إلا عرفان نظام الدِّين.
• ما أبرز المقالات التي عكرت الصفو؟
•• المقالات التي تعبتنا كثيرة، طلب مني زملاء شفاعة عبدالله الفيصل عند الأمير خالد الفيصل عندما كان مسؤولاً عن «رعاية الشباب»، لأنه زعلان على الزملاء بسبب التعصب، وناولني ظرفاً فيه أربعة آلاف ريال، ودخلنا على الأمير خالد في بيت محمد سرور الصبان، وهو على مائدة الغداء، وبعدما ما كنا مرتبين الأدوار نطقنا أنا وعبدالله باجبير سوياً فضحك الأمير، ووجهنا بلهجة مؤدبة، واشتكى من زملاء له في «رعاية الشباب» منحاز لهم وزير العمل، فكلمني عبدالمجيد شبكشي وقال الأمير عبدالله الفيصل يبغاك تروح له، فذهبت ولقيت الأمير خالد الفيصل عنده، فأخذا بيدي وقالا أنت ابن فيصل ولست ابن الرابغي، فخرجتُ من عندهما، وكتبتُ رداً أنتصرُ فيه للأمير خالد، ويبدو أن الصياغة والعنوان أغضبت الملك فيصل، وأبدى عتباً على (دايم السيف)، وظل شهراً غائباً عن مجلسه.
• سمعتُ أن الأمير محمد العبدالله الفيصل طلب منك رئاسة النادي الأهلي؟
•• حاول محمد عبدالله الفيصل أن أكون رئيساً للنادي الأهلي، فرفضتُ لأني اتحادي.
• هل التعصب الرياضي قديم؟
•• نعم ولا يزال، وهذا ليس من الرياضة ولا أخلاقها. والتعصب الرياضي مذموم ودليل ضعف الوعي بالمنجز الوطني.
• هل أنت راضٍ عن تجربتك؟
•• تجربتي محفوفة بالتوفيق، وأنا لست صدامياً، وبعيد عن المنافسة غير الشريفة، وتبنى الأمير خالد الفيصل جائزة لأفضل صحفي، وكنت أوّل محرر يفوز بها.
الصحافة أثرت تجربتي من خلال «عكاظ»، خصوصاً الحوارات مع أحمد رامي وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب وبيليه ومحمد علي كلاي، والأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز.