ما أشد الحر. هكذا قالت ابنة أبي الأسود الدؤلي لوالدها. قال الأب: إنه شهر ناجز. وكان يقصد أنه شهر حار، إذ تُطلق صفة ناجز، بشكل عام، على شهور الصيف. أخبرت البنت أباها بأنها لا تسأله وإنما تخبره فقط. رد الأب مُصححا أن الصواب هو القول ما أشد الحر (بفتح الكلمتين معا). لا بد أن هذا حدث في وقت كان فيه الصيف صيفا، والخريف خريفا، والشتاء شتاء، والربيع ربيعا.
تداخلت، اليوم، الفصول، واختلطت عناصرها، وبات التمييز بينها صعبا، حتى وإن ظلت أرقام بداية كل فصل على حدة ثابتة. الواقع أن تلك الأرقام لم تعد تعني شيئا كثيرا. في “اليوميات” القديمة كانت فصول السنة تُحدد بدقة على امتداد العام، وعلى أساسها تنتظم حياة الناس، وعملهم، وخاصة العاملون في الفلاحة. ما عاد العمل بتلك اليوميات اليوم نافعا، فتخلى الناس عنها، وما عادت مُعروفة بينهم. ولا تكاد تعثر على بعض وريقاتها إلا بين أوراق بعض الكتب القديمة، التي كان بعض القراء يميزون بها الصفحات التي قُرئتْ من تلك التي لم تُقرأ بعد. وعلى ظهر كل ورقة من تلك اليوميات كان المرء ينتظر بلهفة أية حكمة أو معلومة مفيدة سيضيفها إلى ما تَجمع له في السابق. وعلى مدار السنة يزداد، في كل يوم، زاده الثقافي، ويصير أكبر وأغنى.
في هذا العام، مضى الصيف ونسي شمسه في الأفق تحرق الحجر والشجر والبشر. تعدت حرارته فصل الخريف، وامتدت إلى بداية فصل الشتاء، الذي تلكأ في المجيء، واكتفى بإرسال برده نيابة عنه، فحل محله، وكان أكثر قسوة منه. وعلى خلاف ابنة أبي الأسود الدؤلي بات الجميع وأصبح يردد: ما أشد البردَ!
غايا عطشى في عز الشتاء! ترفع عينيها إلى السماء، وترقبُ كبير الأليمب وتترقب لقاء عنيفا في رقته معه. ترتب كل شيء، وتتوسل بكل شيء دون جدوى. ترتل أمام يديه آيات العشق، وتنشد الوصال؛ لكنه يبدو، على غير عادته، غير مبال تماما، حتى وهي تحته تهتز اهتزازا، ونشوة محرقة تلهب جسدها. يراها من عليائه تهفو إليه، وتنتظر أن يتنزل عليها ماء تتشربه كل مسام جلدها المتفتحة فلا تُبقي منه شيئا، تمسي وتصبح حبلى، ويخرج من بطنها الزرع، ويمتلئ الضرع.
افترش الرجل أديم غايا العاشقة المتلهفة، واستنشق بعمق، حتى داخ، عطر ترابها الذي عنه يحدث كل شيء، وبه، ومنه يكون، وتلحف بلحاف السماء الأزرق، وقد تخللته سحب بيضاء صغيرة متفرقة، فبدا مثل موج بحر يراه راءٍ من بعيد. أغمض عينيه حتى يشعر أكثر برعشة العشق وطلب الوصال في مشهد هو جزء لا يتجزأ من تفاصيله. نال ما أسعفه حظه من الحياة، ولم يكتف بعد، وإنما يطمح إلى المزيد. لم يزهد في النساء، ولا في الدنيا، ولا يبدو أنهن زهدن من جهتهن فيه، ويتمنى أن يسعف هذا الزمن بالمقام طويلا.
تنتهي الحياة عنده في الوقت نفسه الذي نبدأ فيه في الزهد فيها، وفي خيراتها. هذه حقيقة يؤمن بها ويسلم بها تسليما. وكل ما يحدث في الحياة يحدث لسبب حتى وإن كنا نجهله. ثمة حكمة وراء كل شيء، على الرغم من أننا بحكم قدراتنا المحدودة لا ندركها. يقول هذا وهو الذي لم يدخل مدرسة، ولم يحمل بين يديه في يوم من الأيام كتابا. وهكذا، صار يقبل بكل شيء، حتى بتلك الأشياء غير القابلة للقبول. إنه رجل زارع تفاؤل وحاصد تفاؤل.
إن كل ما تهبه الحياة للإنسان من أشياء، في نظره، إنما تعبر له من خلالها عن حبها له، ومن خلال ذلك العطاء-الحب تُعبر عن حبها لنفسها.
فالحياة لا تكره أبدا نفسها. والإنسان الذي يفهم هذا لا يمكنه إلا يبادلها حبا بحب. فهي حتى عندما تتسبب له في مصائب ومآسٍ، فإن غرضها يكون هو جعله أكثر كمالا ونضجا.
يسكن جسده الهادئ، فتخال الحياة قد هجرته تماما؛ ثم يعود ليتملل في مكانه، فيبدو كما لو أن الحياة قد عادت إليه فجأة لسبب غامض وحدها تعلمه. يحرص، بشكل تلقائي على الأرجح ولا دخل للوعي فيه، على أن يدير ما خفي عن الشمس من جسده اتجاهها في كل مرة. يعمل على أن تنال كل جهة من ذلك الجسد قسطا من حرارة الشمس، كما لو أن منها تتغذى أعضاؤه كلها، وعليها تتوقف حياته برمتها.
رجل ينام في الخلاء وحيدا، بعيدا تماما عن الأسمنت والحديد وضجيج المحركات، والفضاء حوله مفتوح لا يحده حد. ينام قرير العين غير عابئ بعيون الآخرين، ولا بما يمكن أن يتعرض له من أدى، قد لا يُدرك مصدره، ولا متى يمكن أن يباغته. وليست شجرة الزيتون المباركة غير البعيدة عنه هي التي تنشر عليه سلامها، ولا هديل الحمام الذي يحط بالقرب منه، ويطير ثم يعود، هو الذي ينشد له السلام، ويتغنى له به. بل العكس هو الحاصل فعلا، ذلك أن سلامه الداخلي هو الذي يجعل العالم الخارجي يدخل رغم أنفه في سلام عميق.
في الجوار، تطير فراشة برشاقة، فتنعكس أشعة الشمس على أجنحتها لتجعلها هي الروعة ذاتها. تتجه الفراشة إلى الأشواك المجاورة، وتتجول بينها، في حرية كاملة، مثل من يبحث عن تكثيف للحياة في لحظة قصيرة ومفصلية من خلال مواجهة خطر محدق يتم الذهاب إليه بعينين مفتوحتين، ويكفي خطأ بسيط يتم ارتكابه، دون قصد، لينتهي كل شيء هكذا دفعة واحدة. إنها ليست مجرد فراشة فحسب، وإنما هي الحياة ذاتها، بما تحويه وتنطوي عليه من جمال وهشاشة.
وفي الجوار أيضا، وعلى مقربة من الحياة في الوقت نفسه، ثمة صخب طفولي يملأ الفضاء، ويملكه، ويتملكه، ويفيض به. كرة تلاعبها أقدام صغار، وهي تداعب أحلامهم الكبيرة، فيعيشون لحظات مسكونين بروح هذا البطل أو ذاك. وفي كل هدف يُسجل تتعالى أصوات هؤلاء فرحا، وأصوات أولئك أسى. قد تبيت بأبواب القوافي وتقضي يومك الموالي، وأيام كثيرة بلا عد، دون أن يجود عليك الشعر بقصيدة قصيرة عن الحياة في عيني طفل، وتجري كلماتها على لسانه هو نفسه.
لا صخب هؤلاء وصراخهم ولا حفيف أجنحة الفراشة يصل إليه ويجعله منزعجا. ففي صدره أودع برد السلام، وأغلق عليه. وهو يعيش دون أن يضع ساعة في يده، أو هاتفا في جيبه، وإنما يضبط إيقاع حياته على متطلبات جسده وروحه. تبدأ درجة الحرارة في الانخفاض الشديد مع حلول المساء، فتراه يترك مكانه على مهل، ويأخذ طريقه بخفة إلى مكان أكثر دفئا، وقد علق بجلبابه عطر غايا المقدس.
المصدر: وكالات