1
رواية (جنوب الروح) لمحمد الأشعري رحلة في الزمان والمكان والمصائر.. وللرحلة في الرواية استعارتها الخاصة: إنها متاهة وهروب؛ ذلك أن الشيخ المهدي، وهو ابن أخي الفرسيوي، كان قد جاء به وبإخوته في عيون الشواري مع الكرموس اليابس والزبيب، وهرب بهم من الريف في مجاعة 1880. والرحلة نزوح أيضا، فلا أحد يستطيع أن يزاحم محمدا الفرسيوي في ملكية الحكاية التي ابتدأت بنزوح غامض. وهي، أخيرا، “هجرات متباعدة” في فضاءات معلومة وأخرى محلوم بها. أو”هجرة علقتها السلالة مثل تميمة، وظلت تنسج حولها حركات جسدها وطقوس أشواقها”. يعكس هذا البعد الاستعاري للرحلة، بما هي هروب ونزوح وهجرة، أحد المسارات الممكنة التي تقترن مباشرة بأصداء بُعد استعاري آخر هو صورة الموت؛ كيف ذلك؟
تتسم صورة الموت بكونها إحدى الموضوعات الأساسية في رواية (جنوب الروح)، ليس فقط لأنها صورة ينفتح بها السرد من خلال موت الفرسيوي أو صورة يختتم بها من خلال موت رقية؛ بل لأن الرواية تجعل من الموت إحساسا موازيا لسديمية العبور ليصبح صورة من صور الرحيل التي تحاصر مصائر الشخصيات: ألا يبدو الموت، بهذا المعنى، شيئا تافها أو قدرا مبهما يشبه لحظة فناء “بومندرة”؟
تعيش كل شخصية في رواية (جنوب الروح) موتها من عمق لحظات الوجود. فلا يعدو الموت لديها لغزا أو افتقادا، إنه احتماء وخلق مستمر، لأن ذات الشخصية لا تكاد تحس بالموت الذي يأتي هكذا ويتركها جامدة أو متكوّمة، وكأن الرواية تصلُ الحياة بالموت أو الموت بالحياة وتختزن العديد من متاهاته الممكنة ضمن مسارات الخلاص أو الاندحار. والموت، أخيرا، في هذه الرواية، موت مفاجئ؛ يكفي أن نتأمل موت الفرسيوي، وموت سلام وزوجته كنزة في يوم واحد، موت فضيلة زوجة الفرسيوي، موت يامنة، موت محند العكيوي، موت نجمة أم نورية وزوجة مزيان العكيوي الذي أصيب باضطراب ذهب بعقله، موت السّي محند أوبناصر، مـوت همــوشة، ومـوت رقية.
هكذا تصبح كل الشخصيات كمشة صغيرة في مواجهة الموت الزاحف، ويغدو الموت إعلانا بانتهاء الرحلة وتعليقا للحظة مليئة بالغموض والحيرة.
2
حكاية مَنْ تلك التي ترويها لنا رواية (جنوب الروح) عن متاهة الرحيل المحاصر لسلالة الفرسيوي؟ ثمة هروب من القتل، هروب من الأصل ورغبة ملحة في الاستمرار في الحياة. وثمة، أيضا، تمزّقات واستيهامات في العلاقة بالزمان والمكان والكائن، ذاكرة جماعية وأخرى فردية تصر على مقاومة المحو وانكسار الأحلام والرغبات:
تبدأ الحكاية بهروب الفرسيوي من قرية بوضيرب في الريف مثقلا بآثار القتل والثأر آخذا معه أبناء أخيه الذي قتل رجلا من قبيلة القلعية. والفرسيوي هذا هو المؤسس الفعلي لقرية بومندرة. وتتواصل الحكاية مع شخصية فرسيوية أخرى: الفرسيوي الأقرع، وهو ابن الفرسيوي الذي تعلم من أبيه الحكايات ليصبح فيما بعد راويا متجوّلا في الساحات والأسواق؛ سيصبح الفرسيوي الأقرع بدوره ساردا للحكاية بعدما رافق أباه أثناء إقامته بالرباط، وهو من سيحصل، في النهاية، على الكناش الذي كان يسجل فيه أبوه الأحداث والتفاصيل والتواريخ الخاصة ببومندرة وأهل بومندرة.
ثلاث سير متداخلة تختزل سيرة جيل بأكمله؛ بدءا من الرحيل عن قرية بوضيرب مع الفرسيوي الأب، وانتهاء بالرغبة في العودة إليها مع الفرسيوي الحفيد.
أتساءل: أليست رواية (جنوب الروح) رواية تبحث عن جدوى ومعنى الانتماء إلى المكان؟ وما هي الحقيقة التي تودّ الرواية أن تقولها بخصوص هذه المصائر المضاعفة والخيبات المتكررة؟
تخبرنا الرواية بأن سيرة محمد الفرسيوي تقترن بذلك النزوح الغامض الذي فرضته رحلة قاسية من الريف، رحلة دامت ستة أشهر وستة أيام، مرّ فيها عبر مساحات شاسعة من الغابات والحقول والقرى. كان هاربا بالسلالة من بطش الثأر ومن شظف السنوات العجاف. وتقترن سيرة الفرسيوي الأقرع بحياة مبعثرة ومليئة بالتيهان والطواف في أسواق البلاد بين مكناس وفاس ومراكش والدار البيضاء، تستقبله الساحات والجوطيات وهتافات الصبية، ويزرع في كل حلقة حكايات مكتملة، وشظايا من حكايات لم تكتمل. وتقترن، أخيرا، رحلة ابن الفرسيوي الأقرع بفهم ما جرى لحكاية أمه التي هامت على وجهها يسلمها برّ إلى برّ وبحر إلى بحر، وحكاية أبيه الذي لم يكن سوى فقيه دوّخته الأحاجي وهشاشة سلالة أضنتها الهجرات والأحلام الموؤودة.
تبدي هذه السير رغبتها في امتلاك وعي خاص بذاتها وبالمحيط من حولها أكثر مما تبدي رغبتها في اختصار قيم الواقع ضمن تحوّلات زمنية لا تعرف غير الانشطار والبؤس والإحباط.
3
هكذا تحرص شخصيات الرواية على تفسير أقدارها من موقع التخطّي: تخطّي العبثي والمأساوي. ولذلك، فإن الكثير من صور الأحلام والمنامات لا تحررها من رتابة الواقع؛ ولكنها تجعلها متماهية معه. بعبارة أخرى، المنامات في الرواية لا تعاكس واقع الشخصيات؛ بل إنها تضعها في مواجهة مصير وتجربة وعلاقات تفسّر بها لحظات التأزم والغياب والنسيان. فهذا محمد الفرسيوي تأخذه سنة من النوم، قبيل الفجر، فإذا به يرى طائرا ضخما في بياض الحليب يمسك بأبيه ويطير به في زرقة السماء، كان ذلك قبيل أن يعلم بموت أبيـه. وها هو مرة أخرى يرى في منامه الفقيه السي عبد الله يطلب منه أن يأتي بولده إلى الجامع لحفظ القرآن. أما الفرسيوي الأقرع فقد رأى في منامه أنه واقف على بئر يسقي بدلو من فضة والناس متحلّقون حوله وهو يملأ أقداحهم فلا يرتوون. وهذه حادّة أوعكي، أم مزيان وزوجة أبي محند العكيوي، ترى في منامها موت محند العكيوي بعين تصبابت دون زيادة أو نقصان. أما محمد الفرسيوي فما إن أخذته السِّنة الأولى من النوم حتى رأى فيما يرى النائم أنه يدخل بومندرة فجرا، فيجد عند المقابر شيخا مهيبا يلبس جلباب صوف من الحبة الناصعة وعليها سلهام السوسدي الناعم. بينما رأت نجمة زوجة مزيان العكيوي في منامها ذات يوم رجلا يلبس لباسا حريريا في خضرة الحقول، يناديها باسمها وهي لا تعرفه، فتهرع نحوه وتقبّل يده، فإذا به يسلمها لفة بيضاء عطرة أمسكتها متوجسة، فإذا هي مولود في خرقة صوف، بعد ذلك ستلد نجمة نورية. أما زوجة محمد الفرسيوي فترى في منامها صاحب القبة، وطير الجبال. كما أن نورية، ابنة نجمة، ترى في منامها الفقيه محند أوبناصر جالسا تحت شجرة التين وبين يديه رزمة ملفوفة في ثوب أبيض، اقتربت منه نورية وخمنت أن في الرزمة ملابس جديدة.
هكذا، تغدو المنامات كشفا للرغبات وتفكيكا للأقنعة وإعلانا عن امتلاك أو فقدان؛ يبدو لي أن هذه المنامات تمكن الشخصيات من تجاوز عتمة المحيط والتباس آفاقه، لأنها السبيل الوحيد للاستمرار في مواجهة الحياة.
4
تتحدد إحدى العلاقات الممكنة لتجديد الصلة بالراهن في رواية (جنوب الروح) من خلال ما تدعوه الحكاية، على لسان الفرسيوي الحفيد، بـ”عبور الحكاية”. وتتم استعارة العبور بواسطة الكناش الذي تركه الفرسيوي والمشتمل على عشرين صفحة مرتبة لمسارات في غاية الدقة والبساطة لـ343 شخصا بأعراسهم وجنازاتهم وخصوماتهم وهجراتهم دونما أي خطأ، أو تناقض، أو غموض، أو زيادة، أو نقصان. وتأتي الإحالة على هذا الكناش أول مرة حين وقفت الحافلة الذاهبة من الدار البيضاء إلى مكناس في الخميسات، فهرع محمد إلى أقرب دكان واشترى دفترا صغيرا. إن حصول الفرسيوي الحفيد على هذه الورقات التي تعمّد والده نسيانها بين يديه ليس سوى وصية سرية استهدفت القذف به في تجربة وجودية حاسمة لا تتحقق إلا بما تبيحه احتمالات المصائر من تأكيد للهوية والانتساب إلى تاريخ مشترك وحكايات متساكنة فيما بينها.
“عبور الحكاية” هو ما يمكن الفرسيوي الحفيد من تجديد الصلة براهنه في محاولة لفهم ما جرى، وكأن رواية (جنوب الروح) لا يهمها أن تستكين بشكل دائم إلى مطلقية الماضي؛ بل تنشد مواجهة الراهن المتمثل، على الأقل، في جنون ووحدة الفرسيوي في نهاية الرواية، وإصرار ابنه في العثور عليه والشروع في البحث عن قرية بوضيرب.
فهل استطاعت كلّ أرواح الرواية، يا ترى، أن تعود إلى جنوبها؟
المصدر: وكالات