بعدما ظهر تزايدٌ في نسبة تبنّي نماذج “القومية الاقتصادية” في العديد من بلدان العالم ارتأت نسخة “الحوارات الأطلسية” المنظّمة بمراكش هذه السنة أن تُسائل هذا التوجه الذي صار يسود الظرفية العالمية، لاسيما أنه منذ الأزمة المالية العالمية بدأت الاقتصادات المتقدمة في اعتماد سياسات اقتصادية ممركزة أكثر على الداخل كوسيلة لتعزيز الانتعاش، وهو ما كان فرصة لمعاينة ما إن كان هذا “الانغلاق الاقتصادي” يؤثر على “الأطلسي” بمفهومه الأوسع.
في هذا الصدد قالت عبلة عبد اللطيف، رئيسة المركز المصري للدراسات الاقتصادية، إن “القومية الاقتصادية أو تصاعد المد الوطني في الاقتصاد ليس مفهوما طارئا، بل يعود إلى القرن التاسع عشر حين ظهرت نزعات حمائية للاقتصادات الوطنية، لاسيما على مستوى البلدان النامية، لكنه تطوّر مع مرور السنوات والعقود”، مسجلة أن “فلسفة هذا البعد كانت تبتغي تحفيز الإنتاج المحلي على مواجهة المنافسة وتشجيع الإنتاجية وحماية النسيج الإنتاجي الوطني”.
وأبرزت الخبيرة الاقتصادية المصرية، خلال حديثها في مؤتمر “الحوارات الأطلسية”، مساء الجمعة، أن “بلدان الجنوب كانت حريصة على ضرورة عدم الضرر باقتصادها الوطني”، مضيفة أن هذا “البعد الحمائي للاقتصاد الوطني لا يمكن أن نعتبره سياسة اقتصادية قائمة بذاتها، فهناك اختلافات مبدئية فيما يخص السياسات الاقتصادية بين الأقطار العالمية، فالغرب بطبيعة الحال منفتح، لكنه يود أن يقوض اقتصادي الصين وروسيا، وهذا تناقض”.
ولفتت إلى “ضرورة تشكيل تكتلات اقتصادية بالنسبة للأسواق الناشئة، التي هي جزء من الجنوب العالمي، بما أن هناك مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقها فيما يخص بناء قدراتها، وهو شرط لكل أداء جيد لتدبير الأزمات التي تعيشها”، مشيرة إلى أنه “لا بد من تنويع الأسواق وإيجاد قدرات إضافية للتّنافسية والاستفادة من المنصات المتوفرة حاليّا لكون دول الجنوب لم تستفد سابقا من الفرص المتاحة أمام النمو الاقتصادي الوطني بالنظر إلى السياق العالمي”.
من جانبه، اعتبر الخبير الهندي هاريندر كوحلي أن “الدول العظمى بدورها تزايد لديها المد القومي والشعبوي، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، كما تابعنا في عهد دونالد ترامب، فاتجهت نحو هذه القومية الاقتصادية”، موضحاً أن “الاقتصادات العالمية تواجه تحديات متعددة، منها التغيرات المناخية، وهذه القارة تعاني من مشاكل المديونية، والحل لهذه المعضلة لن يكون وطنيا، وسيكون بالتالي كونيا، وهناك مشاكل الهجرة، مما يستدعي التعاون متعدد الأطراف، ولكون أشكال التعاون القديمة أصبحت متهالكة”.
وأفاد كوحلي، خلال مداخلته في الجلسة العامة حول “القومية الاقتصادية.. لحظة أم حركة؟”، أن “الأزمة عالمية والتغيرات المناخية هي أكبر عقبة، ولإيجاد الحلول علينا أن نعتمد على القنوات متعددة الأطراف، التي تتخطّى البعدين الوطني والإقليمي لكي تصل إلى المستوى الدولي”، مشيرا إلى أن “الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تعود إلى تقوية التحالفات، والحال أن علينا التفكير جميعا في كيف نتجاوز تعزيز البعد الوطني في حماية الاقتصادات الوطنية واستشراف المستوى العالمي والبحث عن حلول”.
ولفت إلى أن “الانغلاق التام لم يعد ممكنا نظرا لكون مفاتيح الإشكالات الاقتصادية لا بد أن تكون كونية وعالمية”، مضيفا أن “اليابان التي تزعمت نادي العشرين، من المعروف أنها تحمي بالفعل اقتصادها الوطني، لكنها تطالب بإصلاح المنظمات التمويلية الإقليمية والدولية، وتنفتح. وبالتالي على الاتحاد الإفريقي وتكتلات أخرى أن تقوم بالدور نفسه لتسهيل التعاون الأطلسي”.
أما المستشار الخاص للوزير الأول الإثيوبي والأستاذ في الأكاديمية البريطانية بلندن، أركبي أوكوباي ميتيكو، فأوضح أن “هناك مدا وجزرا في موضوع التصور الحمائي للاقتصادات الوطنية”، مبرزا أن “أهم أسباب تصاعد هذا المد، مؤخرا، الأزمة العالمية سنة 2008”. وأضاف أن “سنة 2020 صاحبها مجدداً، نتيجة الجائحة وانحسار الاقتصاد وتباطئه وارتفاع نسب التضخم، نزوع شعبوي قسم الرأي العام الوطني في العديد من البلدان حول الأوضاع الاقتصادية المحلية”.
وأشار ميتيكو في السياق ذاته إلى أن “هناك تدابير حمائية اتخذتها بعض البلدان كانت ضارة ولا بد من الحد منها لتسهيل التعاون الإقليمي”، مؤكداً أن “حماية الاقتصاد الوطني مهمة وأساسية لكون العنصر الأساسي هنا هو الاقتناع والإيمان بأن قنوات التعاون متعدد الأطراف يمكن أن تستفيد من شبكات العمل المشترك على مستوى بلدان الجنوب تحديدا، من خلال استلهام تجارب جادة لإعادة تنشيط الاقتصادات ووضع تدابير حمائية وطنية لا تلغي أشكال الشراكة”.
وقال إن “الإشكالية المطروحة في تصورنا الحالي للقومية الاقتصادية هي الهرولة نحو مساعي الحد من الأخطار بدل التركيز على تعبئة الموارد وتسخيرها للنمو”، مذكرا بأن “لكل بلد أولوية تتعلق بتشجيع الاقتصاد الوطني، ولكن دون إغفال أهمية وضرورة التعاون على المستويين الإقليمي والدولي، واحترام المنافسة الشريفة، والمؤسسات الدولية التي تعمل بالتالي على تمويل الاقتصاد يجب أن تدلي بدلوها أيضاً، وتطالب بتحمل البلدان القوية مسؤوليتها في الاختلالات الاقتصادية العالمية”.
المصدر: وكالات