قال الدكتور والأكاديمي عبد الله بوصوف إن الجزائر تعيش اليوم عزلة دولية واضحة وإخفاقات سياسية واقتصادية وديبلوماسية، مشيرا إلى جملة من الإخفاقات التي منيت بها في الآونة الأخيرة.
واستحضر بوصوف، في مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”المغرب.. طوق نجاة الجزائر منذ معاهدة “دو بورمون”، محطات وحقائق تاريخية موثقة وقف خلالها المغرب جنبا إلى جنب مع الجارة الشرقية، مبرزا أن النداءات المغربية للمصالحة والطمأنينة لا يمكن تفسيرها خارج سياقات تقاليد السلاطين والملوك المغاربة تجاه جار عانى ويلات الكوارث الطبيعية والمجاعات وفترات استعمار طويلة وتنوع المُستَعمريـن.
وهذا نص المقال:
منذ سنة 2008 خصص أكثر من خطاب ملكي فقرات تدعو إلى المصالحة مع الشقيقة الجزائر، مذكرًا بالتاريخ المشترك والروابط العائلية والإنسانية وبحسنات الحوار والتبادل وفتح الحدود.
وتأتي هذه الدعوات إلى المصالحة في سياقات سياسية واقتصادية مختلفة لم يكن فيها المغرب أبدًا طرفا ضعيفا أو مهزومًا، بل كان في دائرة مستقرة وواثقا من إمكانياته ومدركًا لكل التحديات وفخورا بالدينامية الإيجابية بخصوص ملف الوحدة الوطنية والترابية، الصحراء المغربية، سواء من خلال قرارات إيجابية لمجلس الأمن الدولي أو من خلال اعترافات مباشرة بمغربية الصحراء وفتح قنصليات بالعيون والداخلة أو دعم مبادرة الحكم الذاتي.
وحتى نكون أكثر دقـة وواقعية، يكفينا التذكير السريع ببعض سياقات الأحداث قبل وبعد خطابيْ العرش لسنتي 2022 و2023، إذ عرفت هذه الفترة تحركا عدائيا من جانب واحد تمثـل في قطع العلاقات من جانب واحد في صيف 2021، ثم قطع أنبوب “ميدغاز” في شهر أكتوبر من السنة نفسها، ثم مختلف محاولات النيل من صورة المغرب بالخارج كتورط الأجهزة الجزائرية في ملف “قطر غيت”، وفشل محاولة بتر الصحراء من مغربها في خريطة القمة العربية بالجزائر، ووَعْـد بتقديم مساعدات للرئيس التونسي بقيمة 300 مليون دولار مقابل استقبال زعيم الانفصاليين، والخروج الإعلامي المُؤدى عنه لرئيس الجزائر في قنوات خليجية وفرنسية من أجل النفخ في تمثال “القوة الضاربة”، وإقحام “القزم” حفيد مانديلا في نشاط “الشان” الرياضي، وهزيمة الجزائر في تمثيل شمال إفريقيا في “الكاف” مقابل فوز كبير لممثل ليبيا الممزقة بالصراعات والعنف واللااستقرار…
مقابـل هذه اللائحة المتنوعة من المحاولات الحاقـدة والفاشلة حقق المغرب في الفترة نفسها انتصارات كبيرة تمثلت أساسا في عودة العلاقات المغربية/ الإسبانية واعتراف إسبانيا بقوة وفعالية مبادرة الحكم الذاتي، وإعادة تشغيل أنبوب “ميدغاز”، واعترافات دول قوية وكبيرة بالصحراء المغربية كأمريكا وألمانيا وهولندا وبلجيكا والبرتغال..، وآخـرها كانت دولة إسرائيل، وفشل إقحام المغرب في “قطر غيت”، والاستقالة المُـذلـة للقاضي البلجيكي، والإنجاز غير المسبوق للفريق الوطني في “مونديال قطر”، وفتح المزيد من القنصليات بمدن الصحراء المغربية.
ولأن الخطابات الملكية ليست ذات طبيعة انفعالية، بل هي مؤسِسة لمنظومات سياسية وتشريعية وقانونية وتوجيهية ولمفاهيم وقيم أخلاقية، فقد تميزت منذ سنة 2008 بعدم قطع “شعرة معاوية ” مع الجزائر شعبًا وقيادة، ودعت إلى طي صفحة الماضي والتركيز على مستقبل الشعبين الشقيقين.
وهي رغبة فسرها بعض قصيري النظر بأنها ضعف في الموقف المغربي، في حين أنها تطبيق عميق لروح القول المأثور “العفو عند المقدرة”، أي أن الذي بإمكانه العفو بإمكانه العقاب أيضا.
لكن لا يمكن أن تغيب عن كل قارئ متأنٍّ رغبة أخرى تضمنتها الخطابات الملكية، تتعلق بطمأنة الجزائر، قيادة وشعبا، على أمنها واستقرارها، وعدم الإساءة إلى الأشقاء في الجزائر، وأنهم سيجدون المغرب والمغاربة إلى جانبهم في كل الظروف والأحوال، وأن المغرب لن يكون أبـدا مصدر أي شـر أو سـوء.
وحتى هذه الرغبة فسّـرها بعض معاول الهدم بأنها حالة وهـن مغربي. لكن الحقيقة المُغيبة في الإعلام الجزائري هي أن هذه الرغبة ليست وليدة السياق السياسي الحالي، بل هي عنوان كبير لمسلسل طويل من الأحداث التاريخية التي دفعت فيها المملكة الشريفة ضريبة حسن الجوار والتضامن مع الأشقاء في الجزائر.
نحن لا نقول هذا الكلام من أجل إشباع رغبة شخصية أو الإفـراط في الانتماء لهذا الوطن المغربي، الذي آمن الشعب الجزائري من خوف وأطعمه من المجاعات والأوبئة التاريخية سنوات 1865 و1868، التي ذهب ضحيتها 500 ألف جزائري، حيث عُرفت هذه الفترة بـ”عام الشـر”.
المغرب الذي خاض معركة “إيسلي” سنة 1844 ضد الجيوش الفرنسية بعد احتضانه الأمير عبد القادر ورفضه تسليمه لفرنسا مع تزويد المقاومة بالسلاح والرجال.. المغرب الذي تحمل ضريبة التضامن والجوار بفرض شروط معاهدة “لالة مغنية” القاسية عليه، من ضرائب واقتطاع لأراضيه، سنة 1845.. هو المغرب نفسه الذي سيقف مع الحركة الوطنية، وقام بتزويدها بالسلاح، وبإيواء الهاربين من الجيوش الفرنسية، وتشكيل أول حكومة موقتة بمنزل المجاهد محمد الخضير الحموتي بمنطقة بني انصار بالناظور في خمسينيات القرن الماضي.. وهو المغرب نفسه الذي قـدم دعما سياسيا في ملف استقلال الجزائر بهيئة الأمم المتحدة مع المغفور لهما السلطان محمد الخامس والملك الحسن الثاني رحمهما الله. هذا الدعم السياسي سيتعزز بإجراء المغرب مقابلة في كرة القدم سنة 1958 مع المنتخب الجزائري، وسيتحمل عقوبة “الفيفا”: التوقيف سنتين. لكن السلطان محمد الخامس سيرد عليهم بقولـه: “حتى لو كانت العقوبة أربع سنوات سيخوض منتخبنا هذه المباراة من أجل الجزائر”. هو السلطان محمد الخامس نفسه الذي سيرفض التجارب النووية لفرنسا/ ديغول في الصحراء الشرقية، التي ضمتها لاحقا إلى الجزائر..! وهو المغرب نفسه الذي يـمد يـد المصالحة إلى الأشقاء في عهد الملك محمد السادس، ويؤكد لهم أن المغرب لن يكون أبدًا مصدرا للشـر أو السوء.
فلا يمكن إنكـار كل هذه الحقائق التاريخية، فالمغرب على مـر تاريخ جِـواره مع الجزائر شكل الامتداد الجغرافي والإنساني للأشقاء الجزائريين. لذلك لا يمكن تفسير النداءات المغربية للمصالحة والطمأنينة خارج سياقات تقاليد السلاطين والملوك المغاربة تجاه جار عانى ويلات الكوارث الطبيعية والمجاعات وفترات استعمار طويلة وتنوع المُستَعمريـن.
ما تعيشه الجزائر اليوم من عزلة دولية واضحة وإخفاقات سياسية واقتصادية وديبلوماسية يجعلنا نطرح السؤال التالي: هـل يعيد التاريخ نفسه ليقوم المغرب بدوره التقليدي كطوق نجاة للجزائر؟..
فالجزائر لم تنجح في تطوير علاقاتها المتشنجة مع المستعمر السابق فرنسا، ولم تنجح في لَـيّ ذراع إسبانيا في ملف اعترافها بقوة الحكم الذاتي، ولم تنجح في علاقاتها مع روسيا بدليل عدم قبولها في مجموعة “البريكس”، ولم تنجح في أن تكون فاعلا عربيا بدليل فشلها في إرجاع سوريا إلى الجامعة العربية. كما لم تنجح في ملف توحيد الفصائل الفلسطينية رغم هبـة 30 مليون دولار، ولم تنجح في توظيف العائدات المالية الكبيرة في تنمية البلاد بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، كما فعلت دول أخرى منتجة للغاز الطبيعي كالنرويج مثلا، ولم تنجح في تشويه صورة المغرب بالخارج، رغم سيل أنبوب الدولارات من حنفيات سونطراك.
كذلك لم تنجح في خلق علاقات جادة مع كل جيرانها، فلا هي أوفت بوعودها المالية تجاه تونس/ قيس السعيد، ولا هي نجحت في مصالحات ليبيا، ولا هي نجحت في أن تكون فاعلا إفريقيا، إذ لم تشارك في وفد المصالحة الإفريقية في الحرب الأوكرانية/ الروسية.
لكن يبقى ملف النيجر من أكبر تحديات القيادة الجزائرية، ليس لأنها تشترك معها في 1000 كيلومتر حدودية فحسب، مما يجعل كل صراع مسلح أو تدخل عسكري تهديدا حقيقيا للجزائر، من هجرات جماعية ومساحة جديدة لتحرك الجماعات الإرهابية بالمنطقة، بل هناك مصالح اقتصادية مشتركة، خاصة مشروع أنبوب الغاز النيجيري المار بالنيجر، ففي ظل هذه الأجواء المتوترة سيعرف هذا المشروع التأجيل إلى أجل غير مسمى. كما كانت الجزائر غائبة في ملف انقلاب النيجر الأخير. كذلك تربطها بالنيجر اتفاقية ثنائية في مجال الهجرة تسمح لها بطرد المهاجرين بالقوة، إذ وصلت الأرقام منذ بداية السنة إلى 20 ألف حالة طرد. ولا يمكن القفز على ملف “قبائل الطوارق”، التي تستقر في كل من ليبيا والنيجر والجزائر ومالي، والتي طالبت أكثر من مرة بالحكم الذاتي. لذلك سارع تبون يوم 5 غشت إلى التصريح بأنه لا يمكن الحديث عن حلول بالنيجر بدون الجزائر لأنه يعرف مسبقا أن الجزائر ستحترق بنار النيجر على المستويين الأمني والسياسي.
ولنقف على حقيقة واحدة، هي أن الجزائر الآن معزولة عن كل جيرانها الحدوديين، تونس وليبيا والنيجر..، ومهددة في استقرارها السياسي في أفق رئاسيات سنة 2024 من جهة، ومن “القنبلة الموقوتة الطوارق” من جهة ثانية. فهل سيكون المغرب طوق نجاة الجزائر؟ التاريخ يقول نعم، وسيجدون المغرب والمغاربة بجانبهم في كل الظروف والأحوال. فماذا تقول القيادة الجزائرية؟ وماذا يقـول الشعب الجزائري؟..
المصدر: وكالات