تستهدف التنبؤات في عالم الاستخبارات استباق الأحداث المستقبلية وتجنب المفاجآت الإستراتيجية، ومساعدة عملية اتخاذ القرار على توجيه الموارد المحدودة إلى أكثر الجوانب والقضايا أولوية، حسب إستراتيجية الأمن القومي.
وتبين الدراسة التحليلية المنشورة على موقع “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، تحت عنوان “الاستخبارات الاستباقية: التنبؤ وبناء سياسات الأمن القومي”، لصاحبها محمد العربي، الباحث في الشؤون الدولية والإستراتيجية، طبيعة وظيفة “التنبؤ”، وموقعها المركزي في دورة الاستخبارات الحديثة.
ويرى الباحث ورئيس برنامج الاستشراف الإستراتيجي بالمركز محمد العربي أن محللي الاستخبارات يقدمون تنبؤاتهم ضمن عملية التحليل الاستخباراتي، ما يستوجب فهم المهمة ضمن نطاق أوسع هو “دورة الاستخبارات”.
وتتشكل دورة الاستخبارات من ست عمليات، تتمثل في التخطيط والتوجيه من خلال تحديد برنامج العمل وفقاً لمتطلبات صانعي السياسات من معلومات مطلوبة لتعزيز قراراتهم، ثم جمع المعلومات وفقاً لنطاق الأولويات، وهي مرحلة العمل الميداني بالنسبة لعناصر الاستخبارات البشرية، أي الجواسيس والعملاء، وتوظيف أدوات الاستخبارات الإشارية، ورصد موارد الاستخبارات مفتوحة المصدر، التي أصبحت منجماً للمحللين والعملاء، إلى جانب المعالجة والاستغلال، لأن المعلومات التي يمكن جمعها عن موضوع واحد هائلة إلى حد الإرباك؛ ثم مرحلة التحليل والإنتاج، وهي المرحلة الأهم في العمل الاستخباراتي، إذ تشير إلى “إضفاء واستخراج معنى مما تم فرزه من المعلومات التي تم جمعها”، وصولا إلى مرحلة النشر، وأخيرا مرحلة التقييم التي تنتج بالأساس عن ردود فعل صناع القرار على المنتجات الاستخباراتية.
وبحسب ما أكده الباحث ذاته فإن التنبؤ الاستخباراتي ليس بالمهمة السهلة، خاصة عندما يتعلق بالأمور الأكثر حساسية وأهمية: أمن الدول ومصالحها، إذ تعمل الاستخبارات ومحلليها على ملاحقة التطورات ومراقبة التحديات المتداخلة لكي تصيب في تقدير الأمور، وتقوم بوظيفتها في خدمة صانع القرار.
ووفقا للمصدر نفسه فإن الاستخبارات تعمل وفقاً لجدول أولويات الدولة التي تنتمي إليها، وأجهزتها السياسية والأمنية، حيث ينقسم جدول الأولويات إلى ثلاثة نطاقات زمانية، وهي إستراتيجية وعملياتية وتكتيكية.
فالاستخبارات الإستراتيجية تتشكل من القضايا القائمة ذات الأهمية المستمرة، التي غالباً لا تتأثر بالتغيرات السياسية والإدارية الدورية داخل وخارج أجهزة الاستخبارات؛ أما الاستخبارات العملياتية فتتعلق بالعمليات القائمة بالفعل، التي تدعمها الاستخبارات بتقارير دورية مقدمة إلى صناع القرار. وأخيرا الاستخبارات التكتيكية التي تفرض تأثيرها في متابعة المحللين.
وتنتج أجهزة الاستخبارات تقديرات تنبؤية تتخذ أشكالاً مختلفة، تتمثل في التقديرات الحتمية، التي يقصد بها “أحكام يقينية” صيغت في شكل تقدير مرجح أو تنبو شبه مؤكد، حيث يشير الباحث إلى أن المشكلة الرئيسة في هذا النمط من التقديرات التنبؤية تكمن في أنه يدفع صناع القرار نحو وضع رهاناتهم على احتمال واحد والتغافل عما دونه، وبالتالي يسهم في خلق “المفاجأة الإستراتيجية”، مستدلا على ذلك بتعامل الاستخبارات الأمريكية مع الثورة الإيرانية والغزو السوفيتي لأفغانستان.
كما تنتج الاستخبارات بحسب الباحث نفسه تقديرات احتمالية، وهي اللغة الأكثر سيادة في أوساط محللي الاستخبارات، وتتناسب مع وضعية اللايقين السائدة. ونظراً إلى سيولة هذه اللغة التقديرية وتراوحها بين الأرجح والأقل رجحاناً تتجه بعض مجتمعات الاستخبارات إلى وضع قواعد لها، مثلما جاء في قرار مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية عام 2015، الذي يربط بين نسب احتمال التقديرات واستخدام لفظة تقديرية مناسبة لها.
وبحسب الدراسة التحليلية فإن لغة الاحتمالات في تقديرات الاستخبارات الاستباقية تظل عرضة للتضارب، لاسيما في حالة وجود أكثر من منظمة استخبارية متنافسة، أو وجود صراعات داخل مجتمع الاستخبارات، أو وجود فجوة في الاتصال في ما بينها.
وتجد مجتمعات الاستخبارات عوائق تحد من قدرتها على استباق التطورات الدولية، وبالتالي قيامها بدورها في تعزيز ميزة اتخاذ القرار الملائم لدى صناع السياسات. وتعود بعض هذه العوائق إلى البيئة السياسية والإستراتيجية التي تعمل هذه الأجهزة في إطارها، وأخرى تتعلق بطرق عملها في الداخل، وكذلك بكفاءة المحللين والإدارة، حيث يصعب على الدولة تركيز جهودها في أكثر من جهة، فيما تسجل الاستخبارات الأكثر تركيزا في أولوياتها درجة نجاح أكبر في رصد وتعقب خطوات خصومها.
وينضاف إلى هذه العوائق، وفق المصدر نفسه، ما أسماه الباحث “مبدأ تجزئة المعلومات الاستخباراتية”، حيث لا يتعامل المحللون إلا مع الأجزاء التي تخصهم وتخص وكالاتهم.
كما تعاني الاستخبارات من ضعف الموارد البشرية، ما يكمن في ضعف القيادة المؤسسية أو خضوعها للقيادة السياسية أو في تراجع القدرات الثقافية والفكرية للمحللين. ووفق الدراسة فإن هذا الضعف والتراجع اتضح في أعقاب أحداث الحادي عشر من شتنبر، حيث توسعت أجهزة الاستخبارات في التوظيف دون التدقيق في خلفية المعينين، بفعل ضغط ظروف الحرب على الإرهاب، في وقت تراجع عدد المتخصصين من حملة الشهادات العليا، وهو ما أدى إلى تدهور المرجعية الثقافية للمهنة.
وتواجه عملية التنبؤ في بناء السياسات إخفاق الدوائر الاستخباراتية ودوائر مراكز الفكر والنخب الأكاديمية والبحثية، باعتبار أن هذه الدوائر هي التي تمتلك القدرة على توجيه صناع القرار إلى اتخاذ قرار ما أو الإحجام عن قرار آخر.
وتؤكد الدراسة أن هناك نوعاً من الإخفاق الذي يتعلق بفشل الساسة ومتخذي القرار في تبني تحذيرات هذه الدوائر، وهو الإخفاق الذي يشار إليه باسم “أثر كساندرا”، الذي يمكن قراءة ملامحه في ما أسماه الباحث “طغيان الحسابات السياسية”.
واستمر الكاتب شارحا ذلك من خلال الحديث عن بعض الأهداف السياسية التي تطغى على الدواعي العملية التي قد تكون الاستخبارات بأدواتها المختلفة، البشرية والإلكترونية والسيبرانية، على علم بها؛ وفي هذه الحالات يكون صناع القرار أكثر ميلاً لتجاهل تحذيرات الاستخبارات.
وخلص صاحب الدراسة إلى أن الاستباق وإصدار التنبؤات سيستمر كجزء أصيل في عمل الاستخبارات الحديثة، وكمعيار للحكم على إخفاقها أو نجاحها في الحفاظ على الأمن القومي ومصالح الدول. كما أن عناصر القصور البشري ستظل قائمة، سواءً كانت في شكل تحيزات إدراكية أو أحكام قيمية أو تصورات خاطئة.
وشددت الدراسة على أن أجهزة الاستخبارات مطالبة ببذل جهد إضافي في التفسير والشرح والتأكد من الحقائق الأساسية للتطورات التي تعرض للدولة وصناع قرارها، مشيرة إلى أن هذه الأجهزة ملزمة بإجراء البحوث الأساسية حول القضايا الجديدة أو الناشئة، وإعمال الفكر التأملي والاستشرافي في ما يمكن أن يطرأ في المستقبل من تحديات.
المصدر: وكالات