نعيش اليوم طفرة علمية كبيرة، شملت كل الميادين والمجالات، وأضاء نورها جميع البقاع وعبرت كل الحدود، ويأتي الطب في صدارة العلوم التي شهدت تطورا مطردا على مر العصور، وذلك بفضل الجهود والبحوث والاكتشافات والتجارب التي قادها علماء أفذاذ، كرسوا حياتهم لخدمة البشرية وتعزيز سلامتهم الصحية.
وضمن قائمة «عظماء الطب» في العالم يتواجد باقتدار الطبيب والمفكر التونسي «أحمد بن الجزار القيرواني» الذي ذاع صيته شرقا وامتد غربا، وحازت عبقريته إعجاب وتقدير المختصين والعامة، كما ألهمت اكتشافاته العلمية معاصريه ولاحقيه لعدة قرون.
ولد أبو جعفر أحمد بن إبراهيم ابن أبي خالد «المعروف اختصارا بـ«ابن الجزار القيرواني» سنة 891 ميلادي بمدينة القيروان التونسية وترعرع في عائلة شغوفة بالعلم، حيث كان أبوه وعمه طبيبين حاذقين، ثم تدرج في تكوينه تحت إشراف الطبيب إسحاق بن سليمان والطبيب إسحاق بن عمران، وهما عالمان بارزان في ذلك العصر.
وعلى مدى ثمانية عقود تقريبا من عمره، نبغ ابن الجزار في دراسة علوم الفقه والتاريخ والفلسفة والأدب والشعر والجغرافيا وعلم النفس، وكان يتقن اللغات الأمازيغية والعربية واليونانية، وقد ساعده زاده المعرفي الواسع في أن يرتقي بنفسه من مقعد الطالب الدارس إلى وضع العالم الملهم والمبتكر.
تميز «ابن الجزار القيرواني» بمنهجه العلمي الدقيق المبني على إخضاع الدراسات للتجربة الميدانية، حيث كان يستعرض مختلف الأمراض والآفات يشخص أسبابها وأعراضها ويصرف الدواء الأمثل للعلاج منها.
كما صنف في كتابه «إبدال الأدوية» النباتات والأعشاب حسب لونها وأشكالها ومكوناتها «منفردة أو مركبة» وصنع منها المراهم والعقاقير، وتولدت لديه، بحكم الممارسة، قناعة بأن الإنسان وليد بيئته، أي الطبيعة والوسط الذي يعيش فيهما لهما تأثير مباشر على صحة بدنه وتفاعلاته الفسيولوجية والسلوكية.
وانفرد ابن الجزار القيرواني بخمس ميزات كبرى، الأولى تخص اهتمامه بطب الشيوخ والمسنين، حيث صنف مؤلفا لهذه الفئة العمرية تحت اسم «طب المشايخ» تناول فيه تحولاتهم الجسمانية ومستوى مناعتهم والأمراض التي تصيبهم والأدوية المناسبة لحالتهم، أما الثانية فتتمثل في وضع قواعد لطب المسافرين، تمكنهم من التطبب الذاتي في تنقلهم وترحالهم، آخذا في الاعتبار تواجدهم بمفردهم من دون طبيب أو مكان للتزود بالدواء، وضعيات مستجدة تطرق لها بإسهاب في كتابه «زاد المسافر وقوت الحاضر» الذي تمت ترجمته إلى اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية نظرا لأهميته العلمية والعملية، وما إصرار القائد الفرنسي «نابليون بونبارت» على حمل مؤلف ابن الجزار معه في كافة حملاته للخارج، إلا دليل على أهمية الكتاب.
وتتجلى الميزة الثالثة للعالم التونسي في تخصصه في طب الأطفال، حيث يعد الأول في هذا المجال، الذي انفرد بعلم معمق وخاص بالأطفال، حلل فيه سلوكهم النفسي وعاداتهم والأمراض التي تصيبهم في مختلف مسارات طفولتهم، في وقت الحمل ومرحلة اكتمال الرضاعة فالطفولة ثم المراهقة، وفصل كل هذه المراحل والأمراض المرتبطة بها في مصنفه الضخم «مرجع في طب الأطفال».
وتميز العالم التونسي بمعرفته الدقيقة بأصول الطب والصيدلة، معتبرا إياهما علمين متكاملين ولكن لكل منهما خصوصياته وأساليبه وفنونه، هذه هي معالم الميزة الرابعة لابن الجزار التي تمظهرت بوضوح في عيادته الطبية، التي اتخذت شكلا مشابها للعيادات الحديثة، أين توجد غرفة خاصة بالكتابة واستقبال المرضى وأخرى ملاصقة للوصف وثالثة مستقلة، يتم فيها صرف الأدوية (صيدلية)، وهو بروتوكول سابق لعصره.
وارتبطت الميزة الخامسة، بأخلاق ابن الجزار ونزاهته وإعلائه شأن الشرف المهني، حيث كان يعفي الفقراء من دفع الأجر ويسلمهم الدواء بالمجان، وصنف لهم كتاب بعنوان «طب الفقراء والمساكين» فيه من الأدوية المناسبة لهذه الفئة من حيث ثمنها الزهيد وتركيبتها الدوائية البسيطة.
ومثلما نهل من مآثر سابقيه على غرار أبقراط وجالينوس وعدد من العلماء المسلمين واليهود، فإن كتب ومؤلفات ابن الجزار تمت ترجمتها إلى اللغات اللاتينية عبر الطبيب «قسطنطين الإفريقي» وتم تدريسها في جامعات الطب بإيطاليا وفرنسا لعدة قرون، كما استفاد من نظرياته الفيلسوف «ابن سينا» والمفكر «فرويد» وغيرهما، بالإضافة إلى تبني عدة مؤسسات طبية أساليبه في تسيير المرفق الصحي، لاسيما فيما يتعلق بتوفير العلاج للفقراء بالمجان أو بثمن رمزي وكذلك في ما يطلق عليه اليوم مصطلح «الطب الثوري».
أحدثت مؤلفات «ابن الجزار» التي فاقت 40 مصنفا ومرجعا في مجال الطب والصيدلة «ثورة علمية» ممتدة، كيف لا وقد كان هو الرائد في بعث اختصاص طب الأطفال ودراسة نفسيتهم، والأول في ترجمة كتب الطب من اليونانية إلى العربية، والسابق في وصف الجذام وتشخيصه، وفي تعريف الأمراض الجنسية والمعدية.
لقد استطاعت البلاد التونسية، بفضل إسهامات ابن الجزار وغيره من المفكرين والعلماء السابقين واللاحقين، أن تلعب دورا رياديا في مسار الحضارة الإنسانية وأن تشع بنورها في سماء العلم والإبداع، كما حافظت مختلف مدنها وأقطابها العلمية على جاذبيتها كقبلة للدراسين وطلبة العلوم والفنون، سواء في المشرق العربي أو في منطقة المغرب العربي وبلاد الأندلس (سابقا) وقارتي أوروبا وإفريقيا.
وللتدليل على ما توليه تونس من أهمية بالغة للعلوم، يكفينا الإشارة إلى أن أهم مشروع رئاسي تتهيأ بلادنا لإنجازه في المستقبل بشراكة مع أشقائها وأصدقائها، هو بعث مدينة القيروان الطبية، الهادف إلى تقديم خدمات علاجية واستشفائية راقية، ذات بعد وطني وإقليمي، يستفيد منه بالخصوص التونسيون وأشقائهم العرب والأفارقة، ويعيد في نفس الوقت لمدينة القيروان إشعاعها العلمي وتوهجها الحضاري.