قرر المشاركون في موسم أصيلة الثقافي الدولي أن “يضعوا خطابات المعرفة جانبا”، لوهلة من الزمن فقط، انتصاراً لنبل ما، للحظة إنسانيّة تراهن على تكريس “ثقافة الاعتراف”، بوصفها قيمة متجذرة في معاني الوفاء؛ فزوال اليوم السبت كنّا جميعاً مع وقفة تأبينيّة للصحافي والروائي السعودي هاني نقشبندي (1963-2023)، تحاول أن “تنصف شخصا خدم الإنسانية”.
الدورة الـ44 كان من المخطط أن يحضرها نقشبندي المزداد بالمدينة المنورة، قبل أن يغيّبه الموت يوم 24 شتنبر 2023 عن عمر يناهز 60 سنة؛ لكن ذلك لم يجعله خارج برنامج الدورة، إنصافاً للرجل الذي أطّر خلال دورات عديدة سابقة مشغل الكتابة، وربّى في قلوب الأطفال حميمية خاصة وحبا خالصا له. وكما جرت العادة، ففي لحظات التأبين النّبيلة تحضر لغة الرثاء، لكي تُخلّد الشخص وتجعل “الموت” بلا قيمة.
العدواني: شخص عميق ومؤثّر
وهو يتحدث بلغة الرثاء نثراً، قال معجب سعيد العدواني، ناقد وأستاذ بجامعة الملك سعود، في الرياض بالسعودية، إن “هاني نقشبندي كان إعلاميا وروائيا كبيراً”، مشيرا إلى أن “الرجل، رحمه الله، كان عنصراً أساسيا وفاعلاً ضمن مجموعة من الشباب السعوديين الذين قادوا تحديدا جريدة الشرق الأوسط والمجلات المرفقة بها؛ وكانوا هم نخبة النخبة، ومنهم عبد الرحمن راشد وهاني نقشبندي، وآخرون”.
وأورد الناقد ذاته أن “التوجه الذي اشتغل عليه هؤلاء كان هو الدخول في عصر حداثة المجتمع العربي بسرعة؛ وقد نجحوا إلى حد كبير في ذلك، خصوصا في المملكة العربية السعودية، فهناك أجيال تخرّجت على أيدي هذه الأقلام الصّحافية اللامعة، التي كان هاني جزءاً منها”، وزاد: “كانت جهود الراحل الإعلامية متمثلة في رئاسة عدد من المجلات؛ لكن الذراع الأخرى التي عمل عليها هي الكتابة الروائيّة، وكانت جمله قصيرة ولغته بسيطة نفذت إلى مختلف شرائح القراء”.
وخصّ المتحدث بالذكر “توجه نقشبندي إلى الكتابة الروائية النفعية، ما أوجد لديه قاعدة كبيرة من القراء”، مردفا: “كما توجد وظيفة جماليّة للرواية هناك وظيفة نفعية. واعتماد اللغة البسيطة فتح أبواب قبول أعماله لدى كثير من النقاد العرب، الذين خصوها بالمراجعة النقدية، سواء الصحافية أو المجلات المتخصصة”، وختم: إنّ الحديث عن نقشبندي لا شكّ يحتاج إلى المزيد من التركيز، لكن ذكراه مازالت طبعا بيننا”.
ماجدولين: مثقف وباحث حقيقي
في كلمته التأبينية المعبّرة، قال الناقد المغربي شرف الدين مجدولين إن “فقدان نقشبندي كان فجيعة وصدمة ألمت بنا، لأنه كان جزءا من موسم أصيلة، وجزءا من عمقه الإنساني، وجزءا من إشعاعه الثقافي”، عائداً بالذاكرة إلى الجذر، إلى الواقعة التي عرّفته على هاني نقشبندي حين كان الأخير بصدد إعداد رواية “سلام”؛ موردا: “اتصل بي لكي أحقّق له واقعة متصلة بمدينَتِي الصغيرة: شفشاون، التي توجد بعض التفاصيل عنها في الرواية”.
وتابع الناقد المغربي ذاته: “قال لي هاني إنه يوجد مسجد على التل، اسمه ‘أبو العصافير’، ولديه حكاية تقول إنه بني لكي تمنع الحماية الإسبانية ساكنة الجبل من الذهاب لأداء صلاة الجمعة بالمدينة، لكون الأخيرة كانت تشهد مظاهرات بعد الصلاة تطالب بالاستقلال، وبعد معرفة الناس بحقيقته توقفوا عن الصلاة فيه”، وأضاف: “حينها أخبرته بأن هذه حكاية شعبية متداولة ولكنها غير صحيحة، أولا لأنه بمنطق الأشياء هو مسجد عبارة عن 4 أمتار على 3 أمتار ونصف متر، وهذه المساحة لن تستوعب حتى الصلاة العادية، وقد كان مسجدا للعابرين”.
ومضى ماجدولين قائلاً: “أخبرته بأن هذه الحكاية الشعبية المتداولة هي أكثر روائية من الحقيقة، لكن هاني بعمقه التقط من حديثنا أن الرواية في نهاية المطاف لا تهمها الحقائق، بل يهمها الشيء حيث تكمنُ دراما ما، تُولّد قدرة التخييل على الإنتاج”، منبها إلى أن الراحل “لم تكن لديه أحلام كبيرة أو ادعاءات في حقل الرواية، وكان يتحدث عن أعماله بتواضع، ومن أهم المنجزات التي قام بها أنه أدخل عالمه الروائي إلى قارة ثقافيّة كبرى، وهي ثقافة الأندلس”.
وذكّر المتحدث بالاهتمام الشديد الذي أولاه الكاتب السعوديّ بالأندلس وبتفاصيلها التاريخيّة وأحداثها؛ “كما ستجمعه معها مجدداً طريفة أخرى قائلة إن ‘لهجات الأندلس القديمة هي لهجات شمال المغرب’، فذهب يبحث في زجل الأندلس، وصار باحثا حقيقيا في حقل الدراسات الأندلسية، ولو أنه لا ينتمي إلى الجامعة”، منوها بـ”اجتهاده بقبعة الإعلامي والباحث الصحافي، وإدراكه أن الصحافي إذا لم تكن له الخلفية المعرفية الكبيرة فلا يمكن أن يقوم بدور الصحافة الثقافية”.
ربيع: كاتب بإنسانيّة عميقة
الأكاديمي والروائي المغربي مبارك ربيع قال إن “الرّاحل هاني رجل إذا ما اقتربتَ منه أو حتى إذا ابتعدت عنه فإن ما يثبت من صورة في ذهنك هو أنه شخص شفاف؛ ولكن بعبارة أخرى هو شخص تُقبل عليه فتجده وديعا مبتسما وتلقاه صدفةً وكأنه كان معك على موعد، وكأنه لا ينتظر غيره؛ يصدق عليه قول الشاعر زياد الأعجم: ‘تراهُ إِذا ما جئتهُ مُتَهَلِّلاً… كَأَنَّكَ مُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه’، وهي سمة من سمات إنسانيته العميقة وثقافته العميقة أيضا، لا يُغضب أحدا ولم يغضب أحداً”، حسب قوله.
وأضاف ربيع: “يعطي من ذاته بالقدر الذي يراه مستحقا بمواقع مختلفة تولى مسؤوليتها أو تنشيطها أو الاشتراك فيها؛ ولابد أن نستحضر أنه تولى منبر ‘سيدتي’ ومنبر ‘الرجل’، على ما بين هذين المجالين في واقعنا العربي من جهة وفي الواقع السعودي من جهة أخرى من إثارة لمشاكل كبيرة وعميقة تصل إلى حدود المحرم والمقدس. لكن مع ذلك يبدو أن الرجل لم يُغضب أحدا ولم يَغضب على أحد حتى أتى المسؤولية في حدودها الممكنة”.
وزاد مبدع “الريح الشتوية”: “يحب المغرب وتعرفه زوايا مدينة أصيلة، وتعرفه زقاقاتها ومقاهيها ومطاعمها؛ وتعرفه تلك المنعرجات المؤدية إلى بيت محمد بنعيسى، حيث يتنشق أنفاسه ويتعشق إليه هذا البيت الذي يبدو ضيقا على فساحته بقدر ما يستقبل من الوجوه، وفسيحاً على ضيقه بقدر ما يتسع له من محبة الناس ومن استقبالهم”؛ وذكر “دَأْبَ الراحل على الاشتغال بأوراش موسم أصيلة على اختلافها، تطوعا منه واحتسابا لخدمة الثقافة العربية التي نجدها في هذا الموقع؛ خدمة تطوعية بالكامل وخدمة نموذجية مثالية بالكامل”.
المصباحي: رجل مسالم وقلق
الكاتب والروائي التونسي حسونة المصباحي حاول أن يحافظ على النَفس الشاعري حتى في لحظات الحديث عن الموت، ربّما، باعتبار “الموت تيمة شعرية أيضا”، إذ قال: “في كل مرّة يغيب فيها صديق بطريقة فجائيّة ونحن في غفلة من الموت أستحضر هذه القولة لأحد الشعراء الألمان: ‘الحياة تقول دائما وفي الوقت نفسه نعم ولا.. أما الموت فهو الإثبات الحقيقي بأنه لا يقول إلا نعم أمام الأبدية’”، وأضاف: “غاب عنا هاني نقشبندي ولم يكن أحد يتوقع ذلك”.
وأضاف المصباحي: “غاب ذلك الرجل الهادئ وذلك المبدع الذي يحاور الحياة باسما سعيدا ولا أحد يعرف هل يمكن أن يغيبه الموت بتلك السرعة وبتلك العجلة، فموته كان فاجعة لنا جميعا نحن أصدقاؤه؛ فقد كنت أنتظر أن ألتقي به هنا بأصيلة كما كتب لي عبر البريد.. ولكن ذات صباح وأنا أتصفّح فيسبوك رأيت خبر وفاته، فلم أصدق إلا بعد أن هاتفت حاتم البطيوي، لكي يؤكد لي موته”.
وفي محاولة لملامسة التفاصيل الحياتيّة للراحل قال الروائي التونسي إن “هاني كان يبدو رجلاً مسالماً مع العالم الخارجي، لكن ربما كان يعاني من قلق داخلي رهيب، قلق يصل إلى حد ذلك القلق الوجودي أو الميتافيزيقي الفلسفي الذي يمكن أن يكون سبب رحيله المفاجئ والسريع”. ومرة أخرى يستحضر المتحدث عبارات أحد الشعراء: “الأحباء يرحلون ويذهبون إلى مملكة الموت، ومملكة الموت يسكنها الملائكة ويسكنها الناس الذين لا يفرقون بين الحياة والموت”، ليتابع: “لذلك صديقناً هاني معنا في قلوبنا إلى أن نلتقي أو ربما لا نلتقي في ذلك الغيب الذي لا نعرفه عنه شيئا”.
وبعد هذه الشهادات المؤثرة أتاح المنظمون الفرصة لأطفال استفادوا من مشغل الكتابة الذي كان يؤطره الراحل هاني نقشبندي، ليبعثوا رسائل مفعمة بمعاني العرفان للراحل؛ فالرسائل المصورة التي تَلتها على أسماعنا كل من شهد بوحراث، ولينة المحفوظي وياسمين أمطوش، وعرضت أمام كل الحاضرين، لم تكن سوى تكريسا لجهود الرجل التي مسّت القريب والبعيد، كما لامست أعماق الكهول والأحداث، الذين كانوا ينتظرون حضوره لأصيلة، قبل أن يختطفه الموت ممن مازالوا يحبونه.
المصدر: وكالات