بسعادة غامرة، جالت الطفلة (سديل) أسواقاً محلية عدة، على مدار أكثر من ثلاث ساعات متواصلة، برفقة والدتها، التي أصرت على أن تشتري لابنتها الوحيدة أجمل «فساتين» ترتديها خلال أيام عيد الأضحى المبارك. وكان للأم ما سعت إليه، فسديل غسان نغنغية (14 عاماً)، من سكان مخيم جنين، شمال الضفة الغربية المحتلة، اقتنت أجمل أزياء من اختيار والدتها، لتتميز بها عن من هن في عمرها.
وعلى عجالة، اتجهت (سديل) إلى منزلها في المخيم، لتعلق فساتين العيد داخل خزانة ملابسها، متجهة مباشرة صوب منزل عمها المجاور، بعد ارتداء ملابس الصلاة، لتشارك بنات عمها فرحة شراء أزياء العيد، وترى ما هو الأجمل من بين فساتينها وملابسهن.
ولكن (سديل) لم تصل إلى وجهتها، ولم تتمكن من قطع المسافة الفاصلة بين منزلها وبيت عمها، والتي لا تتعدى بضعة أمتار قليلة، إذ كان أفراد وحدة القناصة الإسرائيلية المتمركزة أعلى إحدى البنايات في مخيم جنين يتربصون بها، ليطلقوا رصاصاتهم صوب جسد الطفلة النحيل، فتخترقها، وتلقي بها أرضاً، غارقة في دمائها، معلنة تلك الأعيرة النارية غياب الطفلة الوحيدة من الإناث لوالديها، وحرمانها من ارتداء فستان العيد، ولو مرة واحدة.
وداع الحضن الأول
في يوم 21 من شهر يونيو، قبيل عيد الأضحى المبارك بأسبوع واحد، وفي مشهد حزين ومؤثر، ودع الوالدان «طفلتهما المدللة»، وزفها أشقاؤها الأربعة إلى مثواها الأخير. وفي اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى المبارك، انتقلت «الإمارات اليوم» إلى منزل الطفلة نغنغية في حي الزهرة بمخيم جنين، الذي غابت أجواء العيد عنه تماماً، وعن محيطه أيضاً، فيما بدت مظاهر الحسرة واضحة جلية، والتي تعيشها عائلة (سديل) حزناً على فراق طفلتهم الوحيدة.
ويقول الوالد المكلوم، غسان نغنغية، في حوار خاص مع «الإمارات اليوم»، بصوت حزين، إن «الجميع تعاقب على حمل جثمانها، من أشقائها وأعمامها، فيما زفت على أكتاف صديقاتها بزيها المدرسي إلى مثواها الأخير، ليبكيها سكان المخيم كافة، فهي فقيدتهم التي أراق الاحتلال دماءها الزكية على مرأى أعينهم، وبجوار منازلهم».
ويمضي نغنغية بالقول: «قبل أيام عدة من رحيلها عنا جميعاً، كانت صغيرتي (سديل) ووحيدتي تُمني النفس بقضاء أسعد الأوقات في عيد الأضحى الأول، الذي كانت ستقضيه في حضني بعد سنوات من الحرمان خلف القضبان». ويسترسل الأسير المحرر: «إن طفلتي المدللة قضت سنوات طفولتها تنام وتصحو على صوت أزيز رصاص الاحتلال وقذائفه في مخيم جنين، التي أبدلت أيام اللعب والضحك بمشاهد حزينة مظلمة، إذ قضيت جل سنوات عمري أسيراً داخل السجون الإسرائيلية، لأحرم منها إلى الأبد، بعد أسابيع قليلة من الإفراج عني».
فستان الستار الأخير
بذلك، أسدل الاحتلال الإسرائيلي الستار الأخير على صاحبة الـ14 ربيعاً، التي ودعت عائلتها من دون رجعة، وبقي فستانها داخل خزانتها بمثابة الشاهد الأخير على فرحتها التي خطفها القناصة الإسرائيليون كلمح البصر، ليروي حكايات من الحسرة والألم سترافق والديها طويلاً. وبصوت حزين خافت، يصف والد (سديل) اللحظات الأخيرة قبل استشهاد طفلته الوحيدة: «قبل أيام من استشهادها كانت سعيدة جداً وهي تشتري ملابس العيد، وأخبرتنا جميعاً عن لون الحجاب الذي سترتديه مع فستانها».
ويضيف: «إن فرحتها هذه لم تدم طويلاً، فما هي إلا دقائق معدودة حتى باغت الاحتلال المخيم، وارتكب جريمة راح ضحيتها سبعة من السكان، من بينهم طفلتي، وبذلك سيظل فستانها حبيس خزانة ملابسها، فيما تتفقده والدتها على مدار كل ساعة، فتبكي طفلتها الوحيدة من الإناث».
يصمت الوالد المكلوم قليلاً، فتفيض عيناه بالدموع، ليكمل قائلاً: «إن حبيبتي (سديل) كانت تحلم بحياة أكثر أمناً، ومستقبل أفضل، وكانت كالفراشة مع زميلاتها، وبنات عمها، بل كانت طفلتي المدللة التي لم أتخيل لحظة واحدة أن تفارق حياتي بهذه الصورة البشعة، فالاحتلال اغتال براءة لم تشكل خطراً يمس منظومته الأمنية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني».
• أسدل الاحتلال الإسرائيلي الستار الأخير على صاحبة الـ14 ربيعاً، التي ودعت عائلتها من دون رجعة، وبقي فستانها داخل خزانتها بمثابة الشاهد الأخير على فرحتها التي خطفها القناصة الإسرائيليون كلمح البصر، ليروي حكايات من الحسرة والألم سترافق والديها طويلاً.
• (سديل) لن تصل إلى وجهتها، فلم تتمكن من قطع المسافة الفاصلة بين منزلها وبيت عمها، والتي لا تتعدى بضعة أمتار قليلة، إذ كان أفراد وحدة القناصة الإسرائيلية المتمركزة أعلى إحدى البنايات في مخيم جنين يتربصون بها، ليطلقوا رصاصاتهم صوب جسد الطفلة النحيل، فتخترقها، وتلقي بها أرضاً، غارقة في دمائها.